الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصل في ثمار الجنة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الله تعالى : فيها فاكهة ونخل ورمان [ الرحمن : 68 ] . وقال : فيهما من كل فاكهة زوجان [ الرحمن : 52 ] . وقال : وجنى الجنتين دان [ الرحمن : 54 ] . أي : قريب من المتناول ، كما قال : وذللت قطوفها تذليلا [ الإنسان : 14 ] ، وقال : وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة [ ص: 313 ] [ الواقعة : 27 - 33 ] . أي : لا تنقطع أبدا في زمن من الأزمان ، بل هي موجودة في كل أوان وزمان ، كما قال تعالى : أكلها دائم وظلها [ الرعد : 35 ] . أي : لا يسقط ورق أشجارها ، أي : ليست كالدنيا التي تأتي ثمارها في بعض الأزمان دون بعض ، ويسقط أوراق أشجارها في بعض الفصول ، وتفقد ثمارها في وقت آخر ، وتكتسي أشجارها الأوراق في وقت وتعرى في آخر ، بل الثمر والظل دائم مستمر ، سهل التناول ، قريب المجتنى ، كما قال : ولا ممنوعة . أي : لا تمتنع ممن أرادها كيف شاء ، وليس دونها حجاب ولا ماء ، بل من أرادها فهي موجودة سهلة قريبة ، حتى ولو كانت الثمرة في أعلى الشجرة فأرادها المؤمن ; تدلت إليه حتى يأخذها ، واقتربت منه ، وتذللت لديه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو إسحاق ، عن البراء : وذللت قطوفها . أي : أدنيت حتى يتناولها المؤمن وهو نائم . وقال تعالى : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها [ البقرة : 25 ] . وقال تعالى : وفواكه مما يشتهون [ المرسلات : 42 ] . وقال : يدعون فيها بكل فاكهة آمنين [ الدخان : 55 ] .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد سبق فيما أوردناه من الأحاديث أن تربة الجنة مسك وزعفران ، وأن ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب ، فإذا كانت التربة بهذه المثابة ، [ ص: 314 ] والأصول الثابتة فيها من الذهب ، فما الظن بما يتولد بينهما من الثمار الرائقة النضيجة الأنيقة ، التي ليس فيها عجم ، وليس في الدنيا منها إلا الأسماء ، كما قال ابن عباس ، رضي الله عنه : ليس في الدنيا من الجنة إلا الأسماء . وإذا كان السدر الذي في الدنيا ، وهو لا يثمر إلا ثمرة ضعيفة ، وهى النبق ، وفيه شوك كثير والطلح الذي لا يراد منه إلا الظل في الدنيا ، يكونان في الجنة في غاية كثرة الثمار وحسنها ، حتى إن الثمرة الواحدة منها تتفتق عن سبعين نوعا من الطعوم والألوان ، التي لا يشبه بعضها بعضا - فما الظن بثمار الأشجار التي تكون في الدنيا حسنة الثمار ، طيبة الرائحة ، سهلة التناول ; كالتفاح والمشمش والدراقن والنخل والعنب وغير ذلك; بل ما الظن بأنواع الرياحين والأزاهير! وبالجملة : فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، نسأل الله من فضله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي " الصحيحين " من حديث مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس في حديث صلاة الكسوف ، قالوا : يا رسول الله ، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت . فقال : " إني رأيت - أو : أريت - الجنة ، فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 315 ] وفي " المسند " من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، فقال : " إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة ، فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به ، فحيل بيني وبينه ، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض ، لا ينقصونه " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي " صحيح مسلم " من رواية أبي الزبير ، عن جابر شاهد لذلك ، وتقدم في " المسند " عن عتبة بن عبد السلمي ، أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة : فيها عنب ؟ قال : " نعم " . قال : فما عظم العنقود ؟ قال : " مسيرة شهر للغراب الأبقع يطير ، ولا يفتر " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا ريحان بن سعيد ، عن عباد بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى " . قال الحافظ الضياء : عباد تكلم فيه بعض العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا عقبة بن مكرم [ ص: 316 ] العمي ، حدثنا ربعي بن إبراهيم ابن علية ، حدثنا عوف ، عن قسامة بن زهير ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أهبط الله آدم من الجنة علمه صنعة كل شيء ، وزوده من ثمار الجنة ; فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أنها تغير ، وتلك لا تغير " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية