الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا )

قال أبو جعفر : اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله ( أفلم ييأس ) .

فكان بعض أهل البصرة يزعم أن معناه : ألم يعلم ويتبين ، ويستشهد لقيله ذلك ببيت سحيم بن وثيل الرياحي :


أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

ويروى : "ييسرونني" فمن رواه : "ييسرونني" فإنه أراد : يقتسمونني ، من "الميسر" كما يقسم الجزور . ومن رواه : "يأسرونني" فإنه أراد الأسر ، وقال : عنى بقوله : "ألم تيأسوا" ألم تعلموا . وأنشدوا أيضا في ذلك :


ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه     وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

[ ص: 451 ] وفسروا قوله : "ألم ييأس" ألم يعلم ويتبين؟

وذكر عن ابن الكلبي أن ذلك لغة لحي من النخع يقال لهم : وهبيل ، تقول : ألم تيأس كذا ، بمعنى : ألم تعلمه؟

وذكر عن القاسم بن معن أنها لغة هوازن ، وأنهم يقولون : "يئست كذا" علمت .

وأما بعض الكوفيين فكان ينكر ذلك ، ويزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول : "يئست" بمعنى : "علمت" . ويقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعا : "يئست" بمعنى : علمت يتوجه إلى ذلك إذ أنه قد أوقع إلى المؤمنين ، أنه لو شاء لهدى الناس جميعا ، فقال : "أفلم ييأسوا علما" يقول : يؤيسهم العلم ، فكأن فيه "العلم" مضمرا ، كما يقال : قد يئست منك أن لا تفلح علما ، كأنه قيل : علمته علما قال : وقول الشاعر :


حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا     غضفا دواجن قافلا أعصامها

معناه : حتى إذا يئسوا من كل شيء مما يمكن ، إلا الذي ظهر لهم ، أرسلوا ، [ ص: 452 ] فهو في معنى : حتى إذا علموا أن ليس وجه إلا الذي رأوا وانتهى علمهم ، فكان ما سواه يأسا .

وأما أهل التأويل فإنهم تأولوا ذلك بمعنى : أفلم يعلم ويتبين .

ذكر من قال ذلك

20408 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن [ مولى مولى بحير ] أن عليا رضي الله عنه كان يقرأ : "أفلم يتبين الذين آمنوا" .

20409 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن هارون ، عن حنظلة ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس : ( أفلم ييأس ) يقول : أفلم يتبين .

20410 - حدثنا أحمد بن يوسف قال : حدثنا القاسم قال : حدثنا يزيد ، عن جرير بن حازم ، عن الزبير بن الخريت أو يعلى بن حكيم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤها : "أفلم يتبين الذين آمنوا "؛ قال : كتب الكاتب الأخرى وهو ناعس .

[ ص: 453 ] 20411 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج قال في القراءة الأولى . زعم ابن كثير وغيره : "أفلم يتبين" .

20412 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) يقول : ألم يتبين .

20413 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) ، يقول : يعلم .

20414 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد ، في قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال : أفلم يتبين .

20415 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال : ألم يتبين الذين آمنوا .

20416 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال : ألم يعلم الذين آمنوا .

[ ص: 455 ] 20417 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال : ألم يعلم الذين آمنوا .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل : إن تأويل ذلك : "أفلم يتبين ويعلم" لإجماع أهل التأويل على ذلك ، والأبيات التي أنشدناها فيه .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن كان سيرت به الجبال ، لسير بهذا القرآن ، أو قطعت به الأرض لقطعت بهذا ، أو كلم به الموتى ، لكلم بهذا ، ولكن لم يفعل ذلك بقرآن قبل هذا القرآن فيفعل بهذا ( بل لله الأمر جميعا ) ، يقول : ذلك كله إليه وبيده ، يهدي من يشاء إلى الإيمان فيوفقه له ، ويضل من يشاء فيخذله ، أفلم يتبين الذين آمنوا بالله ورسوله إذ طمعوا في إجابتي من سأل نبيهم ما سأله من تسيير الجبال عنهم ، وتقريبأرض الشأم عليهم ، وإحياء موتاهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا إلى الإيمان به من غير إيجاد آية ، ولا إحداث شيء مما سألوا إحداثه؟ يقول تعالى ذكره : فما معنى محبتهم ذلك ، مع علمهم بأن الهداية والإهلاك إلي وبيدي ، أنزلت آية أو لم أنزلها؛ أهدي من أشاء بغير إنزال آية ، وأضل من أردت مع إنزالها .

التالي السابق


الخدمات العلمية