الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 492 ] النوع الخامس والعشرون :

        كتابة الحديث وضبطه ، وفيه مسائل :

        إحداها : اختلف السلف في كتابة الحديث ، فكرهها طائفة وأباحها طائفة ثم أجمعوا على جوازها ، وجاء في الإباحة والنهي حديثان ، فالإذن لمن خيف نسيانه ، والنهي لمن أمن وخيف اتكاله ، أو نهى حين خيف اختلاطه بالقرآن وأذن حين أمن .

        ثم على كاتبه صرف الهمة إلى ضبطه وتحقيقـه شكلا ونقطا يؤمن اللبس ، ثم قيل : إنما يشكل المشكل ، ونقل عن أهل العلم كراهة الإعجام والإعراب إلا في الملتبس ، وقيل : يشكل الجميع .

        التالي السابق


        ( النوع الخامس والعشرون : كتابة الحديث ، وضبطه ، وفيه مسائل :

        إحداها : اختلف السلف ) من الصحابة والتابعين ( في كتابة الحديث ، فكرهها طائفة ) منهم : ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وآخرون .

        ( وأباحها طائفة ) وفعلوها منهم : عمر وعلي وابنه الحسن وابن عمرو وأنس وجابر وابن عباس وابن عمر أيضا ، والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز .

        [ ص: 493 ] وحكاه عياض عن أكثر الصحابة والتابعين منهم : أبو قلابة وأبو المليح ، ومن ملح قوله فيه : يعيبون علينا أن نكتب العلم وندونه ، وقد قال الله عز وجل : ( علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ) .

        قال البلقيني : وفي المسألة مذهب ثالث حكاه الرامهرمزي وهو : الكتابة والمحو بعد الحفظ .

        ( ثم أجمعوا ) بعد ذلك ( على جوازها ) وزال الخلاف .

        قال ابن الصلاح : ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الأخيرة ( وجاء في الإباحة والنهي حديثان ) ، فحديث النهي : ما رواه مسلم عن . أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه " . وحديث الإباحة قوله صلى الله عليه وسلم : " اكتبوا لأبي شاه " متفق عليه .

        وروى أبو داود والحاكم وغيرهما عن ابن عمرو قال : قلت يا رسول الله ، [ ص: 494 ] إني أسمع منك الشيء فأكتبه . قال : نعم . قال : في الغضب والرضا ؟ قال : نعم ، فإني لا أقول فيهما إلا حقا .

        قال أبو هريرة : ليس أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عنه مني ، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب . رواه البخاري .

        وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " استعن بيمينك " وأومأ بيده إلى الخط .

        وأسند الرامهرمزي عن رافع بن خديج قال : قلت يا رسول الله ، إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها ؟ قال : " اكتبوا ذلك ولا حرج " .

        وروى الحاكم وغيره من حديث أنس وغيره موقوفا : " قيدوا العلم بالكتاب " .

        وأسند الديلمي عن علي مرفوعا : " إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بسنده " ، وفي الباب أحاديث غير ذلك .

        وقد اختلف في الجمع بينها وبين حديث أبي سعيد السابق كما أشار إليه المصنف بقوله : ( فالإذن لمن خيف نسيانه والنهي لمن أمن ) النسيان ووثق بحفظه ( وخيف اتكاله ) على الخط إذا كتب فيكون النهي مخصوصا .

        [ ص: 495 ] وقد أسند ابن الصلاح هنا عن الأوزاعي أنه كان يقول : كان هذا العلم كريما يتلقاه الرجال بينهم ، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله .

        ( أو نهى ) عنه ( حين خيف اختلاطه بالقرآن ، وأذن ) فيه ( حين أمن ) ذلك فيكون النهي منسوخا ، وقيل : المراد النهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة ; لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها ، فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه .

        وقيل : النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه ، والأذن في غيره . ومنهم من أعل حديث أبي سعيد ، وقال : الصواب وقفه عليه ، قاله البخاري وغيره .

        وقد روى البيهقي في " المدخل " عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن ، فاستشار في ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها . فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له . فقال إني كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم ، كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا .

        ( ثم على كاتبه صرف الهمة إلى ضبطه وتحقيقه شكلا ونقطا يؤمن ) معهما ( اللبس ) ليؤديه كما سمعه .

        [ ص: 496 ] قال الأوزاعي : " نور الكتاب إعجامه " .

        قال الرامهرمزي : أي نقطه أن يبين التاء من الياء والحاء من الخاء ، قال : والشكل تقييد الإعراب .

        وقال ابن الصلاح : إعجام المكتوب يمنع من استعجامه ، وشكله يمنع من إشكاله . قال : وكثيرا ما يعتمد الواثق على ذهنه ، وذلك وخيم العاقبة ، فإن الإنسان معرض للنسيان انتهى .

        وقد قيل : إن النصارى كفروا بلفظة أخطأوا في إعجامها وشكلها ، قال الله في الإنجيل لعيسى : أنت نبيي ولدتك من البتول . فصحفوها وقالوا : أنت بنيي ولدتك - مخففا .

        وقيل : أول فتنة وقعت في الإسلام سببها ذلك أيضا ، وهي فتنة عثمان رضي الله عنه ، فإنه كتب للذي أرسله أميرا إلى مصر ، إذا جاءكم فاقبلوه ; فصحفوها فاقتلوه ; فجرى ما جرى .

        وكتب بعض الخلفاء إلى عامل له ببلد أن أحص المخنثين . أي بالعدد ، فصحفها بالمعجمة فخصاهم .

        ( ثم قيل : إنما يشكل المشكل ونقل عن أهل العلم كراهية الإعجام ) أي [ ص: 497 ] النقط ( والإعراب ) أي الشكل ( إلا في الملتبس ) إذ لا حاجة إليهما في غيره .

        ( وقيل : يشكل الجميع ) قال القاضي عياض : وهو الصواب لا سيما للمبتدي وغير المتبحر في العلم ; فإنه لا يميز ما يشكل مما لا يشكل . ولا صواب وجه إعراب الكلمة من خطئه .

        قال العراقي : وربما ظن أن الشيء غير مشكل لوضوحه . وهو في الحقيقة محل نظر محتاج إلى الضبط .

        وقد وقع بين العلماء خلاف في مسائل مرتبة على إعراب الحديث . كحديث " ذكاة الجنين ذكاة أمه " ، فاستدل به الجمهور على أنه لا تجب ذكاة الجنين . بناء على رفع ذكاة أمه ، ورجح الحنفية الفتح على التشبيه أي يذكي مثل ذكاة أمه .




        الخدمات العلمية