الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 171 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة الناس

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، الإحالة على هذه السورة عند كلامه على قوله تعالى : ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير [ 11 \ 2 ] ، في سورة هود ، فقال على تلك الآية : فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها هي أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك به في عبادته شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      وساق الآيات المماثلة لها ثم قال : وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة ، وسنتقصى الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة الناس ، لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن في هذه الإحالة منه رحمة الله تعالى علينا وعليه لتنبيها على المعاني التي اشتملتها هذه السورة الكريمة ، وتوجيها لمراعاة تلك الخاتمة .

                                                                                                                                                                                                                                      كما أن في تلك الإحالة تحميل مسئولية الاستقصاء حيث لم يكتف بما قدمه في سورة الفاتحة ، ولا فيما قدمه في سورة هود ، وجعل الاستقصاء في هذه السورة ، ومعنى الاستقصاء : الاستيعاب إلى أقصى حد .

                                                                                                                                                                                                                                      وما أظن أحدا يستطيع استقصاء ما يريده غيره ، ولا سيما ما كان يريده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وما يستطيعه هو .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن على ما قدمنا في البداية : أنه جهد المقل ووسع الطاقة . فنستعين الله ونستهديه مسترشدين بما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورتي الفاتحة وهود ، ثم نورد وجهة نظر في السورتين معا الفلق والناس ، ثم منهما وفي نسق المصحف الشريف ، آمل من الله تعالى وراج توفيقه ومعونته .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 172 ] أما الإحالة فالذي يظهر أن موجبها هو أنه في هذه السورة الكريمة اجتمعت ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال : " رب الناس " ، ملك الناس ، إله الناس " ، ولكأنها لأول وهلة تشير إلى الرب الملك هو الإله الحق الذي يستحق أن يعبد وحده .

                                                                                                                                                                                                                                      ولعله ما يرشد إليه مضمون سورة الإخلاص قبلها : هو الله أحد ، الله الصمد ، وهذا هو منطق العقل والقول الحق ; لأن مقتضى الملك يستلزم العبودية ، والعبودية تستلزم التأليه والتوحيد في الألوهية ; لأن العبد المملوك تجب عليه الطاعة والسمع لمالكه بمجرد الملك ، وإن كان مالكه عبدا مثله ، فكيف بالعبد المملوك لربه وإلهه ، وكيف بالمالك الإله الواحد الأحد الفرد الصمد ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاءت تلك الصفات الثلاث : الرب الملك الإله ، في أول افتتاحية أول المصحف : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ 1 \ 2 - 4 ] ، والقراءة الأخرى : " ملك يوم الدين " [ 1 \ 4 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي أول سورة البقرة أول نداء يوجه للناس بعبادة الله تعالى وحده ، لأنه ربهم مع بيان الموجبات لذلك في قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين الموجب لذلك بقوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم [ 2 \ 21 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا كله من آثار الربوبية واستحقاقه تعالى على خلقه العبادة ، ثم بين موجب إفراده وحده بذلك بقوله : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 22 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      أي : كما أنه لا ند له في الخلق ولا في الرزق ولا في شيء مما ذكر ، فلا تجعلوا لله أندادا أيضا في عبادة ، وأنتم تعلمون حقيقة ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وعبادته تعالى وحده ونفي الأنداد ، هو ما قال عنه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا .

                                                                                                                                                                                                                                      فالإثبات في قوله تعالى : واعبدوا الله [ 5 \ 72 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 173 ] والنفي في قوله : فلا تجعلوا لله أندادا .

                                                                                                                                                                                                                                      وكون الربوبية تستوجب العبادة ، جاء صريحا في قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [ 106 \ 3 - 4 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فالموصول وصلته في معنى التعليل لموجب العبادة ، وسيأتي لذلك زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى في نهاية السورة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء هنا لفظ : رب الناس ، بإضافة الرب إلى الناس ، بما يشعر بالاختصاص ، مع أنه سبحانه رب العالمين ورب كل شيء ، كما في أول الفاتحة : الحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء [ 6 \ 164 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فالإضافة هنا إلى بعض أفراد العام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أضيف إلى بعض أفراد أخرى كالسماوات والأرض وغيرها من بعض كل شيء ، كقوله : قل من رب السماوات والأرض قل الله [ 13 \ 16 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ 73 \ 9 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى البيت فليعبدوا رب هذا البيت [ 106 \ 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى البلد الحرام إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة [ 27 \ 91 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى العرش : رب العرش الكريم [ 23 \ 116 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى الرسول : اتبع ما أوحي إليك من ربك [ 6 \ 106 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وربك فكبر [ 47 \ 3 ] ، إلى غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن يلاحظ أنه مع كل إضافة من ذلك ما يفيد العموم ، وأنه مع إضافته لفرد من أفراد العموم ، فهو رب العالمين ، ورب كل شيء ، ففي إضافته إلى السماوات والأرض جاء معها قل الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الإضافة إلى المشرق والمغرب جاء لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ 73 \ 9 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 174 ] وفي الإضافة إلى البيت جاء : الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الإضافة إلى البلدة جاء الذي حرمها [ 27 \ 91 ] ، وهو الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الإضافة إلى العرش جاء قوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش [ 23 \ 116 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاء قوله : ما ودعك ربك [ 93 \ 3 ] ، وغير ذلك من الإضافة إلى أي فرد من أفراد العموم يأتي معها ما يفيد العموم ، وأن الله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا رب الناس جاء معها : ملك الناس إله الناس ، ليفيد العموم أيضا ; لأن إطلاق الرب قد يشارك فيه السيد المطاع ، كما في قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقول يوسف لصاحبه في السجن اذكرني عند ربك [ 12 \ 42 ] ، أي : الملك على أظهر الأقوال ، وقوله : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الآية [ 12 \ 50 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فجاء بالملك والإله للدلالة على العموم ، في معنى رب الناس ، فهو سبحانه رب العالمين ورب كل شيء ، ولكن إضافته هنا إلى خصوص الناس إشعار بمزيد اختصاص ، ورعاية الرب سبحانه لعبده الذي دعاه إليه ليستعيذ به من عدوه ، كما أن فيه تقوية رجاء العبد في ربه بأنه سبحانه بربوبيته سيحمي عبده لعبوديته ويعيذه مما استعاذ به منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ويقوي هذا الاختصاص إضافة الرب للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أطواره منذ البدأين : بدء الخلقة وبدء الوحي ، في قوله : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق [ 96 \ 1 - 2 ] ، ثم في نشأته ما ودعك ربك وما قلى إلى قوله ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى [ 93 \ 3 - 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل الرغبة إليه في السورة بعدها وإلى ربك فارغب [ 94 \ 8 ] ، تعداد النعم عليه من شرح الصدر ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر ، ثم في المنتهى قوله : إن إلى ربك الرجعى [ 96 \ 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية