الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان من يحل قتله من الكفرة ومن لا يحل ، فنقول : الحال لا يخلو إما أن يكون حال القتال ، أو حال ما بعد الفراغ من القتال ، وهي ما بعد الأخذ والأسر ، أما حال القتال فلا يحل فيها قتل امرأة ولا صبي ، ولا شيخ فان ، ولا مقعد ولا يابس الشق ، ولا أعمى ، ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف ، ولا مقطوع اليد اليمنى ، ولا معتوه ، ولا راهب في صومعة ، ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس ، وقوم في دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب ، أما المرأة والصبي ، فلقول النبي عليه الصلاة والسلام { لا تقتلوا امرأة ولا وليدا } وروي أنه عليه الصلاة والسلام رأى في بعض غزواته امرأة مقتولة فأنكر ذلك وقال عليه الصلاة والسلام : { هاه ما أراها قاتلت ، فلم قتلت ؟ ونهى عن قتل النساء والصبيان ، } ولأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال ، فلا يقتلون ، ولو قاتل واحد منهم قتل ، وكذا لو حرض على القتال ، أو دل على عورات المسلمين ، أو كان الكفرة ينتفعون برأيه ، أو كان مطاعا ، وإن كان امرأة أو صغيرا ; لوجود القتال من حيث المعنى .

                                                                                                                                وقد روي { أن ربيعة بن رفيع السلمي رضي الله عنه أدرك دريد بن الصمة يوم حنين ، فقتله وهو شيخ كبير كالقفة ، لا ينفع إلا برأيه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه ، } والأصل فيه أن كل من كان من أهل القتال يحل قتله ، سواء قاتل أو لم يقاتل ، وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض ، وأشباه ذلك على ما ذكرنا ، فيقتل القسيس والسياح الذي يخالط الناس ، والذي يجن ويفيق ، والأصم والأخرس ، وأقطع اليد اليسرى ، وأقطع إحدى الرجلين ، وإن لم يقاتلوا ; لأنهم من أهل القتال ، ولو قتل واحد ممن ذكرنا أنه لا يحل قتله فلا شيء فيه من دية ولا كفارة ، إلا التوبة والاستغفار ; لأن دم الكافر لا يتقوم إلا بالأمان ولم يوجد وأما حال ما بعد الفراغ من القتال ، وهي ما بعد الأسر والأخذ ، فكل من لا يحل قتله في حال القتال لا يحل قتله بعد الفراغ من القتال ، وكل من يحل قتله في حال القتال إذا قاتل حقيقة أو معنى ، يباح قتله بعد الأخذ والأسر إلا الصبي ، والمعتوه الذي لا يعقل ، فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا قاتلا حقيقة ومعنى ، ولا يباح قتلهما بعد الفراغ من القتال إذا أسرا ، وإن قتلا جماعة من المسلمين في القتال ; لأن القتل بعد الأسر بطريق العقوبة ، وهما ليسا من أهل العقوبة ، فأما القتل في حالة القتال فلدفع شر القتال ، وقد وجد الشر منهما فأبيح قتلهما لدفع الشر ، وقد انعدم الشر بالأسر ، فكان القتل بعده بطريق العقوبة ، وهما ليسا من أهلها والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                ويكره للمسلم أن يبتدئ أباه الكافر الحربي بالقتل ; لقوله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } أمر - سبحانه وتعالى - بمصاحبة الأبوين الكافرين بالمعروف ، والابتداء بالقتل ليس من المصاحبة بالمعروف .

                                                                                                                                وروي { أن حنظلة رضي الله عنه غسيل الملائكة عليهم الصلاة والسلام استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه ، فنهاه عليه الصلاة والسلام } ولأن الشرع أمر بإحيائه بالنفقة عليه ، فالأمر بالقتل فيه إفناؤه ، يكون متناقضا فإن قصد الأب قتله ، يدفعه عن [ ص: 102 ] نفسه ، وإن أتى ذلك على نفسه ولا يكره ذلك ; لأنه من ضرورات الدفع ، ولكن لا يقصد بالدفع القتل ; لأنه لا ضرورة إلى القصد والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية