الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                [ ص: 169 ] كتاب الحجر )

                                                                                                                                والحبس في هذا الكتاب فصلان : فصل في الحجر ، وفصل في الحبس ، أما الحجر فالكلام فيه يقع في ثلاثة مواضع : أحدها : في بيان أسباب الحجر ، والثاني : في بيان حكم الحجر ، والثالث : في بيان ما يرفع الحجر .

                                                                                                                                ( أما ) الأول : فقد اختلف فيه قال أبو حنيفة عليه الرحمة الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة ما لها رابع : الجنون ، والصبا ، والرق ، وهو قول : زفر ، وقال : أبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، وعامة أهل العلم رحمهم الله تعالى والسفه ، والتبذير ، ومطل الغني ، وركوب الدين ، وخوف ضياع المال بالتجارة ، والتلجئة .

                                                                                                                                والإقرار لغير الغرماء من أسباب الحجر أيضا فيجري عندهم في السفيه المفسد للمال بالصرف إلى الوجوه الباطلة ، وفي المبذر الذي يسرف في النفقة ، ويغبن في التجارات ، وفيمن يمتنع عن قضاء الدين مع القدرة عليه إذا ظهر مطله عند القاضي ، وطلب الغرماء من القاضي أن يبيع عليه ماله ، ويقضي به دينه وفيمن ركبته الديون وله مال فخاف الغرماء ضياع أمواله بالتجارة فرفعوا الأمر إلى القاضي ، وطلبوا منه أن يحجر عليه ، أو خافوا أن يلجئ أمواله فطلبوا من القاضي أن يحجره عن الإقرار لا للغرماء فيجري الحجر في هذه المواضع عندهم ، وعنده لا يجري وما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان لا يجري الحجر إلا على ثلاثة : المفتي الماجن والطبيب الجاهل ، والمكاري المفلس ، وليس المراد منه حقيقة الحجر ، وهو المعنى الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف ، ألا ترى أن المفتي لو أفتى بعد الحجر ، وأصاب في الفتوى جاز ، ولو أفتى قبل الحجر وأخطأ لا يجوز ، وكذا الطبيب لو باع الأدوية بعد الحجر نفذ بيعه فدل أنه ما أراد به الحجر حقيقة ، وإنما أراد به المنع الحسي أي : يمنع هؤلاء الثلاثة عن عملهم حسا ; لأن المنع عن ذلك من باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ; لأن المفتي الماجن يفسد أديان المسلمين ، والطبيب الجاهل يفسد أبدان المسلمين ، والمكاري المفلس يفسد أموال الناس في المفازة ، فكان منعهم من ذلك من باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا من باب الحجر فلا يلزمه التناقض بحمد الله تعالى عز شأنه ولو حجر القاضي على السفيه ونحوه لم ينفذ حجره عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لو تصرف بعد الحجر ينفذ تصرفه عنده ، وإن كان الحجر ههنا محل الاجتهاد ; لأن الحجر من القاضي قضاء منه ، وقضاء القاضي في المجتهدات إنما ينفذ ، ويصير كالمتفق عليه إذا لم يكن نفس القضاء محل الاجتهاد .

                                                                                                                                فأما إذا كان فلا بخلاف سائر المجتهدات التي لا يرجع الاجتهاد فيها إلى نفس القضاء ، وقد ذكرنا الفرق في كتاب أدب القاضي واختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما في السفيه أنه هل يصير محجورا عليه بنفس السفه أم يقف الانحجار على حجر القاضي قال أبو يوسف : " لا يصير محجورا إلا بحجر القاضي " ، وقال محمد : ينحجر بنفس السفه من غير الحاجة إلى حجر القاضي ، وحجة العامة قوله تبارك وتعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } جعل الله سبحانه وتعالى لكل واحد من المذكورين وليا ، منهم السفيه ، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا ولي للسفيه ; لأنه إذا كان له ولي دل أنه مولى عليه فلا ينفذ تصرفه كالصبي والمجنون وقوله تبارك وتعالى { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } نهى عن إعطاء الأموال السفهاء ، وعنده يدفع إليه ماله إذا بلغ خمسا وعشرين سنة ، وإن كان سفيها .

                                                                                                                                وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { باع على معاذ ماله بسبب ديون ركبته } وهذا نص في الباب ; لأن البيع عليه لا يذكر إلا في غير موضع الرضا ; ولأن التصرفات شرعت لمصالح العباد .

                                                                                                                                والمصلحة تتعلق بالإطلاق مرة وبالحجر أخرى ، والمصلحة ههنا ; في الحجر ولهذا إذا بلغ الصبي سفيها يمنع عنه ماله إلى خمس وعشرين سنة بلا خلاف ، ولهذا حجر على الصبي ، والمجنون لكون الحجر مصلحة في حقهما ، كذا ههنا ولأبي حنيفة رضي الله عنه عمومات البيع ، والهبة ، والإقرار ، والظهار ، واليمين من نحو قوله تبارك وتعالى { وأحل الله البيع } وقوله سبحانه وتعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إلى قوله عز شأنه { ولا يبخس منه شيئا } أجاز الله تعالى البدلين حيث ندب إلى الكتابة وأثبت الحق حيث أمر من عليه الحق بالإملاء ، ونهى عن البخس عاما من غير تخصيص ، وقوله تبارك وتعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون [ ص: 170 ] تجارة عن تراض منكم } .

                                                                                                                                وبيع مال المديون عليه تجارة لا عن تراض فلا يجوز وبيع السفيه ماله تجارة عن تراض فيجوز وقوله سبحانه وتعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } عاما وشهادة الإنسان على نفسه إقرار وقوله تبارك وتعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } وقوله عليه الصلاة والسلام { تهادوا تحابوا } وآية الظهار وآية كفارة اليمين ، شرع الله تعالى هذه التصرفات عاما والحجر عن المشروع متناقض ، وكذا نص الظهار واليمين يقتضيان وجوب التحرير على المظاهر والحالف الحانث وجوازه عن الكفارة عاما .

                                                                                                                                وعند أبي يوسف ومحمد لا يجب التحرير على السفيه ولو حرر لا يجزيه عن الكفارة ; لأنه تجب السعاية على العبد فيكون إعتاقا بعوض ، فلا يقع التحرير تكفيرا فكانت الآية حجة عليهما ، ولأن بيع السفيه مال نفسه تصرف صدر من الأهل بركنه في محل هو خالص ملكه فينفذ كتصرف الرشيد ، وهذا ; لأن وجود التصرف حقيقة بوجود ركنه ، ووجوده شرعا بصدوره من أهله وحلوله في محله وقد وجد ، وبيع مال المديون عليه تصرف في ملك الغير من غير رضا المالك وأنه لا ينفذ كالفضولي .

                                                                                                                                ( وأما ) الآية فقد قال بعض أهل التأويل : السفيه هو الصغير وبه نقول وقيل : إن الولي ههنا هو من له الحق يملي بالعدل عند حضرة من عليه الدين لئلا يزيد على ما عليه شيئا ، ولو زاد أنكر عليه ، وقوله تبارك وتعالى { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } فقد قال بعض أهل التأويل المراد من السفهاء النساء ، والأولاد الصغار يؤيده في سياق الآية قوله { وارزقوهم فيها واكسوهم } ورزق النساء والأولاد الصغار هو الذي يجب على الأولياء والأزواج لا رزق السفيه وكسوته ، فإن ذلك يكون من مال السفيه على أن في الآية الشريفة أن لا تؤتوهم مال أنفسكم ; لأنه سبحانه وتعالى أضاف الأموال إلى المعطي لا إلى المعطى له وبه نقول .

                                                                                                                                ( وأما ) بيع مال معاذ رضي الله عنه فقد كان برضاه إذ لا يظن به أنه يكره بيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمتنع بنفسه عن قضاء الدين مع مع أنه قد روي أنه طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع ماله لينال بركته فيصير دينه مقضيا ببركته ، كما روي عن جابر رضي الله عنه { أنه لما استشهد أبوه يوم أحد وترك ديونا فطلب جابر من النبي عليه الصلاة والسلام أن يبيع أمواله لينال بركته فيصير دينه بذلك مقضيا } وكان كما ظن ، والاستدلال بمنع المال إذا بلغ سفيها لا يستقيم ; لأن المنع تصرف في المال ، والحجر تصرف على النفس والنفس أعظم خطرا من المال ، فثبوت أدنى الولايتين لا يدل على ثبوت أعلاهما ، ثم نقول إنما يمنع عن ماله نظرا له تقليلا للسفه لما أن السفه غالبا يجري في الهبات والتبرعات ، فإذا منع منه ماله ينسد باب السفه فيقل السفه .

                                                                                                                                ( فأما ) المعاوضات فلا يغلب فيها السفه فلا حاجة إلى الحجر لتقليل السفه ، وأنه يقل بدونه فيتمحض الحجر ضررا بإبطال أهليته ، وهذا لا يجوز بخلاف الصبي والمجنون ; لأنهما ليسا من أهل التصرف فلم يتضمن الحجر إبطال الأهلية والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية