الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 26 ] غزوة الحديبية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف . وممن نص على ذلك الزهري ، ونافع مولى ابن عمر ، وقتادة ، وموسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق بن يسار ، وغيرهم ، وهو الذي رواه ابن لهيعة ، ، عن أبي الأسود ، عن عروة أنها كانت في ذي القعدة سنة ست .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا إسماعيل بن الخليل ، عن علي بن مسهر ، أخبرني هشام بن عروة ، عن أبيه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان ، وكانت الحديبية في شوال . وهذا غريب جدا عن عروة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى البخاري ومسلم جميعا ، عن هدبة ، عن همام ، عن قتادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن ، في ذي القعدة ، إلا العمرة التي مع حجته ؛ عمرة من الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته . وهذا لفظ البخاري . [ ص: 207 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان وشوالا ، وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا . قال ابن هشام : واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي . قال ابن إسحاق : واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا ، أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ؛ ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ، ومعظما له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أنهما حدثاه قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، يريد زيارة البيت لا يريد قتالا ، وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر ، وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر [ ص: 208 ] بن سفيان الكعبي فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ؛ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة . ثم قال : من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟ قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال : أنا يا رسول الله . قال : فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب ، فلما خرجوا منه ، وقد شق ذلك على المسلمين ، فأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قولوا : نستغفر الله ونتوب إليه " . فقالوا [ ص: 209 ] ذلك ، فقال : " والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل ، فلم يقولوها " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن شهاب : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : " اسلكوا ذات اليمين " . بين ظهري الحمض في طريق تخرجه على ثنية المرار ، مهبط الحديبية من أسفل مكة . قال : فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، ركضوا راجعين إلى قريش ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت . فقال : " ما خلأت ، وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم ، إلا أعطيتهم إياها " . ثم قال للناس : " انزلوا " . قيل له : يا رسول الله ، ما بالوادي ماء ننزل عليه . فأخرج سهما من كنانته ، فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل به في قليب من تلك القلب ، فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء ، حتى ضرب الناس عنه بعطن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : فحدثني بعض أهل العلم ، عن رجال من أسلم ، أن [ ص: 210 ] الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب ، سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : وقد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول : أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالله أعلم أي ذلك كان . ثم استدل ابن إسحاق للأول بأن جارية من الأنصار جاءت البئر ، وناجية في أسفله يميح ، فقالت :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها المائح دلوي دونكا إني رأيت الناس يحمدونكا


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يثنون خيرا ويمجدونكا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأجابها فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد علمت جارية يمانيه     أني أنا المائح واسمي ناجيه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وطعنة ذات رشاش واهيه     طعنتها عند صدور العاديه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري في حديثه : فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتاه بديل بن ورقاء ، في رجال من خزاعة ، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به ، فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته . ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، إن محمدا لم يأت لقتال ، إنما جاء زائرا لهذا البيت . [ ص: 211 ] فاتهموهم وجبهوهم وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا ؛ فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدث بذلك عنا العرب . قال الزهري : وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ مسلمها ومشركها ، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة . قال : ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف ، أخا بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال : " هذا رجل غادر " . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه ، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة ، أو ابن زبان ، وكان يومئذ سيد الأحابيش ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه " . فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إعظاما لما رأى ، فقال لهم ذلك . قال : فقالوا له : اجلس ، فإنما أنت أعرابي لا علم لك . قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له ؟! والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو [ ص: 212 ] لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد . قالوا : مه ، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري في حديثه : ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : يا معشر قريش ، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم ؛ من التعنيف ، وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد - وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس - وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئتكم ، حتى آسيتكم بنفسي . قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم . فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بين يديه ، ثم قال : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله ، لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا . قال : وأبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : امصص بظر اللات ، أنحن ننكشف عنه ؟! قال : من هذا يا محمد ؟ قال : " هذا ابن أبي قحافة " . قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها . قال : ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه . قال : والمغيرة بن شعبة واقف [ ص: 213 ] على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد . قال : فجعل يقرع يده ، إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل ألا تصل إليك . قال : فيقول عروة : ويحك ، ما أفظك وأغلظك! قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عروة : من هذا يا محمد ؟ قال : " هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة " قال : أي غدر ، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ؟! .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام : أراد عروة بقوله هذا ، أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا ، من بني مالك من ثقيف ، فتهايج الحيان من ثقيف ؛ بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية ، وأصلح ذلك الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري : فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحو مما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا ، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه ، فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم . [ ص: 214 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له ، يقال له : الثعلب . ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرادوا قتله ، فمنعه الأحابيش ، فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني بعض من لا أتهم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا ، فأخذوا أخذا ، فأتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل ، ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله ، إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته ، فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان [ ص: 215 ] وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف . قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم . واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : " لا نبرح حتى نناجز القوم " . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت . وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ، ولكن بايعنا على ألا نفر . فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها ، إلا الجد بن قيس ، أخو بني سلمة ، وكان جابر بن عبد الله يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، قد ضبأ إليها ، يستتر من الناس ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام : فذكر وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ، عمن حدثه بإسناد له ، عن ابن أبي [ ص: 216 ] مليكة ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى . وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الإسناد ضعيف ثابت في " الصحيحين " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : قال الزهري : ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : ائت محمدا وصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدا . فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال : " قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل " . فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تكلم فأطال الكلام وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح ، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله ؟! قال : بلى . قال : أولسنا بالمسلمين ؟! قال : بلى . قال : أوليسوا بالمشركين ؟! قال : بلى . قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟! قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه ، فإني أشهد أنه رسول الله . قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله . ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ألست برسول الله ؟! قال : " بلى " . قال : أولسنا بالمسلمين ؟! قال : " بلى " قال : أوليسوا بالمشركين ؟! قال : " بلى " قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟! قال : " أنا [ ص: 217 ] عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ولن يضيعني " فكان عمر ، رضي الله عنه ، يقول : ما زلت أصوم ، وأتصدق ، وأصلي ، وأعتق ، من الذي صنعت يومئذ ؛ مخافة كلامي الذي تكلمت يومئذ ، حتى رجوت أن يكون خيرا . قال : ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فقال : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " . قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اكتب باسمك اللهم " فكتبها . ثم قال : " اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو " . قال : فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو " ؛ اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه - فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمد وعهده . وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم - وأنك ترجع عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت فيها ثلاثا ، معك سلاح [ ص: 218 ] الراكب ؛ السيوف في القرب ، لا تدخلها بغيرها . قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ؛ لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه ، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم ، حتى كادوا يهلكون ، فلما رأى سهيل أبا جندل ، قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ، وقال : يا محمد ، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال : " صدقت " فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ، يعني ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ ! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم " . قال : فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب . قال : ويدني قائم السيف منه . قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه . قال : فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية . فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب ، أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ، ورجالا من المشركين ؛ أبو بكر الصديق ، [ ص: 219 ] وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص - وهو يومئذ مشرك - وعلي بن أبي طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا في الحل ، وكان يصلي في الحرم ، فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره ، ثم جلس فحلق رأسه ، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي ، فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر ، وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " يرحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " يرحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " والمقصرين " . قالوا : يا رسول الله ، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال : " لم يشكوا " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال عبد الله بن أبي نجيح : حدثني مجاهد ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية - في هداياه - جملا لأبي جهل ، في رأسه برة [ ص: 220 ] من فضة ؛ ليغيظ بذلك المشركين . هذا سياق محمد بن إسحاق ، رحمه الله ، لهذه القصة ، وفي سياق البخاري - كما سيأتي - مخالفة في بعض الأماكن لهذا السياق ، كما ستراها إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة . ولنوردها بتمامها ، ونذكر ما في الأحاديث الصحاح والحسان ما فيه شاهد ، في كل موطن بحسبه ، إن شاء الله تعالى ، وعليه التكلان ، وهو المستعان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري : حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثنا صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن زيد بن خالد قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، فأصابنا مطر ذات ليلة ، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، ثم أقبل علينا فقال : " أتدرون ماذا قال ربكم ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فقال : " قال الله تعالى : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي ؛ فأما من قال : مطرنا برحمة الله ، وبرزق الله ، وبفضل الله . فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنجم كذا . فهو مؤمن بالكوكب كافر بي وهكذا رواه في غير موضع من " صحيحه " ومسلم من طرق . وقد روى عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة . [ ص: 221 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء ، فتوضأ ثم مضمض ودعا ، ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا . انفرد به البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن إسحاق : في قوله تعالى : فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ( الفتح : 27 ) . صلح الحديبية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ، وضعت الحرب أوزارها ، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا ، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد في الإسلام - يعقل شيئا - إلا دخل فيه ، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر . قال ابن هشام : والدليل على ما قاله الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة رجل في قول جابر ، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري : حدثنا يوسف بن عيسى ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا [ ص: 222 ] حصين ، عن سالم عن جابر ، قال : عطش الناس يوم الحديبية ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة ، فتوضأ منها ، ثم أقبل الناس نحوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما لكم ؟ " قالوا : يا رسول الله ، ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك . قال : فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون . قال : فشربنا وتوضأنا . فقلنا لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد رواه البخاري أيضا ، ومسلم من طرق ، عن حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر ، به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري : حدثنا الصلت بن محمد ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قلت لسعيد بن المسيب : بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول : كانوا أربع عشرة مائة . فقال لي سعيد : حدثني جابر : كانوا خمس عشرة مائة ، الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية . تابعه أبو داود : حدثنا قرة ، عن قتادة . تفرد به البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال عمرو : سمعت جابرا ، قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أنتم خير أهل [ ص: 223 ] الأرض . وكنا ألفا وأربعمائة ، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة . وقد رواه البخاري أيضا ، ومسلم من طرق ، عن سفيان بن عيينة به . وهكذا رواه الليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر : ، أن عبدا لحاطب جاء يشكوه فقال : يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبت لا يدخلها ؛ فإنه شهد بدرا والحديبية رواه مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعند مسلم أيضا من طريق ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابرا يقول : أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة : لا يدخل أحد النار ، إن شاء الله ، من أصحاب الشجرة ، الذين بايعوا تحتها . فقالت حفصة : بلى يا رسول الله . فانتهرها ، فقالت حفصة : وإن منكم إلا واردها ( مريم : 71 ) . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد قال تعالى : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ( مريم : 72 ) .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري : وقال عبيد الله بن معاذ : حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال : كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة ، وكانت أسلم ثمن المهاجرين . تابعه محمد بن بشار ، حدثنا [ ص: 224 ] أبو داود ، حدثنا شعبة . هكذا رواه البخاري معلقا ، عن عبيد الله . وقد رواه مسلم ، عن عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن شعبة ، وعن محمد بن المثنى ، عن أبي داود ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن النضر بن شميل ، كلاهما عن شعبة ، به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن مروان والمسور بن مخرمة قالا : خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي ، وأشعر ، وأحرم منها . تفرد به البخاري . وسيأتي هذا السياق بتمامه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق ؛ من أن أصحاب الحديبية كانوا سبعمائة ، وهو ، والله أعلم ، إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه ؛ من حيث إن البدن كن سبعين بدنة ، وكل منها عن عشرة ، على اختياره ، فيكون المهلون سبعمائة ، ولا يلزم أن يهدي كلهم ، ولا أن يحرم كلهم أيضا ؛ فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طائفة منهم ، فيهم أبو قتادة ، ولم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي ، فأكل منه هو وأصحابه ، وحملوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق ، فقال : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا ما بقي من لحمها . [ ص: 225 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال البخاري : حدثنا سعيد بن الربيع ، حدثنا علي بن المبارك ، عن يحيى ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، أن أباه حدثه قال : انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، فأحرم أصحابه ولم أحرم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري : حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا شبابة بن سوار الفزاري ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه قال : لقد رأيت الشجرة ، ثم أتيتها بعد فلم أعرفها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا موسى ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا طارق ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه أنه كان ممن بايع تحت الشجرة ، فرجعنا إليها العام المقبل ، فعميت علينا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري أيضا : حدثنا محمود ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن طارق بن عبد الرحمن ، قال : انطلقت حاجا ، فمررت بقوم يصلون ، فقلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة ، حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان . فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته ، فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة . قال : فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها . ثم قال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها [ ص: 226 ] وعلمتموها أنتم ؟! فأنتم أعلم! . ورواه البخاري ومسلم من حديث الثوري وأبي عوانة وشبابة ، عن طارق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري : حدثنا إسماعيل ، حدثني أخي ، عن سليمان ، عن عمرو بن يحيى ، عن عباد بن تميم قال : لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة ، فقال ابن زيد : على ما يبايع ابن حنظلة الناس ؟ قيل له : على الموت . فقال : لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان شهد معه الحديبية . وقد رواه البخاري أيضا ، ومسلم من طرق ، عن عمرو بن يحيى ، به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا حاتم ، عن يزيد بن أبي عبيد قال : قلت لسلمة بن الأكوع : على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ؟ قال : على الموت . ورواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد . [ ص: 227 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي " صحيح مسلم " عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات ؛ في أوائل الناس ووسطهم وأواخرهم . وفي " صحيح مسلم " عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس . وكان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أبو سنان ، وهو وهب بن محصن ، أخو عكاشة بن محصن ، وقيل : سنان بن أبي سنان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري : حدثني شجاع بن الوليد ، سمع النضر بن محمد ، حدثنا صخر بن الربيع ، عن نافع قال : إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر ، وليس كذلك ، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له ، عند رجل من الأنصار ، أن يأتي به ليقاتل عليه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك ، فبايعه عبد الله ، ثم ذهب إلى الفرس ، فجاء به إلى عمر ، وعمر يستلئم للقتال ، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة . قال : فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال هشام بن عمار : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عمر بن محمد [ ص: 228 ] العمري ، أخبرني نافع ، عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا عبد الله ، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوجدهم يبايعون ، فبايع ثم رجع إلى عمر ، فخرج فبايع . تفرد به البخاري من هذين الوجهين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية