الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ( 97 ) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ( 98 ) وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ( 99 ) رب هب لي من الصالحين ( 100 ) )

يقول - تعالى ذكره - : قال قوم إبراهيم لما قال لهم إبراهيم : ( أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) ابنوا لإبراهيم بنيانا ، ذكر أنهم بنوا له بنيانا يشبه التنور ، ثم نقلوا إليه الحطب ، وأوقدوا عليه ( فألقوه في الجحيم ) والجحيم عند العرب : جمر النار بعضه على بعض ، والنار على النار .

[ ص: 71 ] وقوله ( فأرادوا به كيدا ) يقول - تعالى ذكره - : فأراد قوم إبراهيم كيدا ، وذلك ما كانوا أرادوا من إحراقه بالنار . يقول الله : ( فجعلناهم ) أي فجعلنا قوم إبراهيم ( الأسفلين ) يعني الأذلين حجة ، وغلبنا إبراهيم عليهم بالحجة ، وأنقذناه مما أرادوا به من الكيد .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ) قال : فما ناظرهم بعد ذلك حتى أهلكهم .

وقوله ( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) يقول : وقال إبراهيم لما أفلجه الله على قومه ونجاه من كيدهم : ( إني ذاهب إلى ربي ) يقول : إني مهاجر من بلدة قومي إلى الله : أي إلى الأرض المقدسة ، ومفارقهم ، فمعتزلهم لعبادة الله .

وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) : ذاهب بعمله وقلبه ونيته .

وقال آخرون في ذلك : إنما قال إبراهيم ( إني ذاهب إلى ربي ) حين أرادوا أن يلقوه في النار .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى قال : ثنا أبو داود قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت سليمان بن صرد يقول : لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين فجمع الحطب ، فجاءت عجوز على ظهرها حطب ، فقيل لها : أين تريدين ؟ قالت : أريد أذهب إلى هذا الرجل الذي يلقى في النار ، فلما ألقي فيها قال : حسبي الله عليه توكلت ، أو قال : حسبي الله ونعم الوكيل قال : فقال الله : ( يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) قال : فقال ابن لوط ، أو ابن أخي لوط : إن النار لم تحرقه من أجلي ، وكان بينهما قرابة ، فأرسل الله عليه عنقا من النار فأحرقته .

وإنما اخترت القول الذي قلت في ذلك ، لأن الله تبارك وتعالى ذكر خبره [ ص: 72 ] وخبر قومه في موضع آخر ، فأخبر أنه لما نجاه مما حاول قومه من إحراقه قال ( إني مهاجر إلى ربي ) ففسر أهل التأويل ذلك أن معناه : إني مهاجر إلى أرض الشام ، فكذلك قوله ( إني ذاهب إلى ربي ) لأنه كقوله ( إني مهاجر إلى ربي ) وقوله ( سيهدين ) يقول : سيثبتني على الهدى الذي أبصرته ، ويعينني عليه .

وقوله ( رب هب لي من الصالحين ) وهذا مسألة إبراهيم ربه أن يرزقه ولدا صالحا ، يقول : قال : يا رب هب لي منك ولدا يكون من الصالحين الذين يطيعونك ، ولا يعصونك ، ويصلحون في الأرض ، ولا يفسدون .

كما حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( رب هب لي من الصالحين ) قال : ولدا صالحا .

وقال : من الصالحين ، ولم يقل : صالحا من الصالحين ، اجتزاء " بمن " ذكر المتروك . كما قال عز وجل : ( وكانوا فيه من الزاهدين ) بمعنى زاهدين من الزاهدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية