الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المزارعة باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه وقول الله تعالى أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما

                                                                                                                                                                                                        2195 حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة ح وحدثني عبد الرحمن بن المبارك حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة وقال لنا مسلم حدثنا أبان حدثنا قتادة حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 5 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 5 ] قوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب المزارعة - باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه ، وقول الله تعالى أفرأيتم ما تحرثون الآية ) كذا للنسفي والكشميهني ، إلا أنهما أخرا البسملة ، وزاد النسفي " باب ما جاء في الحرث والمزارعة وفضل الزرع إلخ " وعليه شرح ابن بطال ، ومثله للأصيلي وكريمة إلا أنهما حذفا لفظ " كتاب المزارعة " وللمستملي " كتاب الحرث " وقدم الحموي البسملة وقال : " في الحرث " بدل كتاب الحرث . ولا شك أن الآية تدل على إباحة الزرع من جهة الامتنان به ، والحديث يدل على فضله بالقيد الذي ذكره المصنف . وقال ابن المنير : أشار البخاري إلى إباحة الزرع ، وأن من نهى عنه كما ورد عن عمر فمحله ما إذا شغل الحرث عن الحرب ونحوه من الأمور المطلوبة ، وعلى ذلك يحمل حديث أبي أمامة المذكور في الباب الذي بعده . والمزارعة مفاعلة من الزرع وسيأتي القول فيها بعد أبواب

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا قتيبة إلخ ) أخرج هذا الحديث عن شيخين حدثه به كل منهما عن أبي عوانة ولم أر في سياقهما اختلافا ، وكأنه قصد أنه سمعه من كل منهما وحده فلذلك لم يجمعهما .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وما من مسلم ) أخرج الكافر لأنه رتب على ذلك كون ما أكل منه يكون له صدقة ، والمراد بالصدقة الثواب في الآخرة وذلك يختص بالمسلم ، نعم ما أكل من زرع الكافر يثاب عليه في الدنيا كما ثبت [ ص: 6 ] من حديث أنس عند مسلم ، وأما من قال إنه يخفف عنه بذلك من عذاب الآخرة فيحتاج إلى دليل ، ولا يبعد أن يقع ذلك لمن لم يرزق في الدنيا وفقد العافية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أو يزرع ) " أو " للتنويع لأن الزرع غير الغرس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال مسلم ) كذا للنسفي وجماعة ، ولأبي ذر والأصيلي وكريمة " وقال لنا مسلم " وهو ابن إبراهيم ، وأبان هو ابن يزيد العطار ، والبخاري لا يخرج له إلا استشهادا ، ولم أر له في كتابه شيئا موصولا إلا هذا ، ونظيره عنده حماد بن سلمة فإنه لا يخرج له إلا استشهادا ووقع عنده في الرقاق " .

                                                                                                                                                                                                        قال لنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة " وهذه الصيغة وهي : " قال لنا " يستعملها البخاري - على ما استقرئ من كتابه - في الاستشهادات غالبا ، وربما استعملها في الموقوفات . ثم إنه ذكر هنا إسناد أبان ولم يسق متنه ، لأن غرضه منه التصريح بالتحديث من قتادة عن أنس . وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد عن مسلم بن إبراهيم المذكور بلفظ أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - رأى نخلا لأم مبشر امرأة من الأنصار فقال : من غرس هذا النخل ، أمسلم أم كافر ؟ فقالوا : مسلم ، قال بنحو حديثهم كذا عند مسلم .

                                                                                                                                                                                                        فأحال به على ما قاله ، وقد بينه أبو نعيم في " المستخرج " من وجه آخر عن مسلم بن إبراهيم وباقيه فقال : لا يغرس مسلم غرسا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة وأخرج مسلم هذا الحديث عن جابر من طرق منها بلفظ " سبع " بدل بهيمة ، وفيها " إلا كان له صدقة فيها أجر " ومنها " أم مبشر أو أم معبد " على الشك ، وفي أخرى " أم معبد " بغير شك ، وفي أخرى " امرأة زيد بن حارثة " : وهي واحدة لها كنيتان وقيل اسمها خليدة ، وفي أخرى " عن جابر عن أم مبشر " جعله من مسندها . وفي الحديث فضل الغرس والزرع ، والحض على عمارة الأرض ، ويستنبط منه اتخاذ الضيعة ، والقيام عليها . وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة . وحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين ، فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا الحديث ، قال القرطبي : يجمع بينه وبين حديث الباب بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين ، وحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها .

                                                                                                                                                                                                        وفي رواية لمسلم إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ومقتضاه أن أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولا منه ولو مات زارعه أو غارسه ولو انتقل ملكه إلى غيره ، وظاهر الحديث أن الأجر يحصل لمتعاطي الزرع أو الغرس ولو كان ملكه لغيره لأنه أضافه إلى أم مبشر ثم سألها عمن غرسه ، قال الطيبي : نكر مسلما وأوقعه في سياق النفي وزاد " من " الاستغراقية وعم الحيوان ليدل على سبيل الكناية على أن أي مسلم كان حرا أو عبدا مطيعا أو عاصيا يعمل أي عمل من المباح ينتفع بما عمله أي حيوان كان ؛ يرجع نفعه إليه ويثاب عليه .

                                                                                                                                                                                                        وفيه جواز نسبة الزرع إلى الآدمي ، وقد ورد في المنع منه حديث غير قوي أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة مرفوعا : لا يقل أحدكم : زرعت ، ولكن ليقل : حرثت ، ألم تسمع لقول الله تعالى : أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ورجاله ثقات ، إلا أن مسلم بن أبي مسلم الجرمي قال فيه ابن حبان : ربما أخطأ . وروى عبد بن حميد من طريق أبي عبد الرحمن السلمي بمثله من قوله غير مرفوع ، [ ص: 7 ] واستنبط منه المهلب أن من زرع في أرض غيره كان الزرع للزارع وعليه لرب الأرض أجرة مثلها ، وفي أخذ هذا الحكم من هذا الحديث بعد ، وقد تقدم الكلام على أفضل المكاسب في كتاب البيوع . والله الموفق .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية