الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 516 ] وهذه قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب عليه السلام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الأنبياء : وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين [ الأنبياء : 85 - 86 ] . وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضا في سورة ص : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار [ ص : 45 - 48 ] . فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام . وهذا هو المشهور ، وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيا ، وإنما كان رجلا صالحا وحكما مقسطا عادلا . وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم . وروى ابن جرير ، وابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنه لم يكن نبيا ، وإنما كان رجلا صالحا ، وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيه أمرهم ، ويقضي بينهم بالعدل ففعل [ ص: 517 ] فسمي ذا الكفل . وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند ، عن مجاهد أنه قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل . فجمع الناس . فقال : من يتقبل لي بثلاث أستخلفه ؛ يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ؟ قال : فقام رجل تزدريه العين . فقال : أنا . فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ، ولا تغضب ؟ قال : نعم . قال : فردهم ذلك اليوم . وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا . فاستخلفه ، قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان . فأعياهم ذلك ، فقال : دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم . قال : فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه . فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا ، وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة . وقال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك فانطلق ، وراح فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره ، فقام يتبعه ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس ، وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب . فقال : من هذا ؟ فقال : الشيخ الكبير المظلوم ففتح له . فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ؟ فقال : إنهم أخبث قوم ، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك . وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق فإذا رحت فأتني . قال : ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظر فلا يراه ، وشق [ ص: 518 ] عليه النعاس . فقال : لبعض أهله لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء ، فقال له الرجل : وراءك ، وراءك . فقال : إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري . فقال : لا ، والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب من داخل قال : فاستيقظ الرجل . فقال : يا فلان ألم آمرك ؟ قال : أما من قبلي ، والله لم تؤت فانظر من أين أتيت ؟ قال : فقام إلى الباب فإذا هو مغلق ، كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه . فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم . أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما ترى لأغضبك فسماه الله ذا الكفل ؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس قريبا من هذا السياق . وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ، ومحمد بن قيس ، وابن حجيرة الأكبر ، وغيرهم من السلف نحو هذا . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر ، أنبأنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة ، عن كنانة بن الأخنس قال : سمعت الأشعري يعني أبا موسى رضي الله عنه ، وهو على هذا المنبر يقول : ما كان ذو الكفل نبيا ، ولكن كان رجلا صالحا يصلي كل يوم مائة صلاة ، فتكفل له ذو الكفل من بعده يصلي كل يوم مائة صلاة فسمي ذا الكفل . ورواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 519 ] فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعد مولى طلحة ، عن ابن عمر قال : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرار ، ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال : كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت ، وبكت فقال لها ما يبكيك أكرهتك . قالت : لا ، ولكن هذا عمل لم أعمله قط ، وإنما حملتني عليه الحاجة . قال : فتفعلين هذا ، ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل . فقال : اذهبي بالدنانير لك ، ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل أبدا . فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل . ورواه الترمذي من حديث الأعمش به . وقال حسن . وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر فهو حديث غريب جدا ، وفي إسناده نظر فإن سعدا هذا قال أبو حاتم : لا أعرفه إلا بحديث واحد . ووثقه ابن حبان . ولم يرو عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا . فالله أعلم . وإن كان محفوظا فليس هو ذا الكفل . وإنما لفظ الحديث " الكفل " من غير إضافة فهو رجل آخر غير المذكور في القرآن الكريم . والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية