الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ( 4 ) فستبصر ويبصرون ( 5 ) بأيكم المفتون ( 6 ) إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( 7 ) )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم ، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به ، وهو الإسلام وشرائعه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 529 ]

ذكر من قال ذلك .

حدثني علي قال ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) يقول : دين عظيم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) يقول : إنك على دين عظيم ، وهو الإسلام .

حدثني محمد بن عمرو ، قال . ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال ثنا الحسن . قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( خلق عظيم ) قال : الدين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن ، تقول : كما هو في القرآن .

حدثنا بشر ، قال . ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ذكر لنا أن سعيد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ألست تقرأ القرآن؟ قال : قلت : بلى ، قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن .

حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن سعيد بن هشام ، قال : أتيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، فقلت : أخبريني عن خلق رسول الله ، فقالت : كان خلقه القرآن ، أما تقرأ : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) .

أخبرنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن أبى الزاهرية ، عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة ، فسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن .

حدثنا عبيد بن أسباط ، قال : ثني أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، في قوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) قال : أدب القرآن . [ ص: 530 ]

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) قال : على دين عظيم .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( لعلى خلق عظيم ) يعني دينه ، وأمره الذي كان عليه ، مما أمره الله به ، ووكله إليه .

وقوله : ( فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون ) يقول تعالى ذكره : فسترى يا محمد ، ويرى مشركو قومك الذين يدعونك مجنونا ( بأيكم المفتون ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فستبصر ويبصرون ) يقول : ترى ويرون .

وقوله : ( بأيكم المفتون ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : بأيكم المجنون ، كأنه وجه معنى الباء في قوله : ( بأيكم ) إلى معنى في . وإذا وجهت الباء إلى معنى "في" كان تأويل الكلام : ويبصرون في أي الفريقين المجنون ، في فريقك يا محمد أو فريقهم ، ويكون المجنون اسما مرفوعا بالباء .

ذكر من قال : معنى ذلك : بأيكم المجنون .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : بأيكم المفتون ، قال : المجنون .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ( بأيكم المفتون ) قال : بأيكم المجنون .

وقال آخرون : بل تأويل ذلك : بأيكم الجنون; وكأن الذين قالوا هذا القول وجهوا المفتون إلى معنى الفتنة أو المفتون ، كما قيل : ليس له معقول ولا معقود ، أي بمعنى ليس له عقل ولا عقد رأي ، فكذلك وضع المفتون موضع الفتون .

ذكر من قال : المفتون بمعنى المصدر ، وبمعنى الجنون :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني [ ص: 531 ] الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( بأيكم المفتون ) قال : الشيطان .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : ( بأيكم المفتون ) يعني الجنون .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس يقول : بأيكم الجنون .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أيكم [ ص: 532 ] أولى بالشيطان; فالباء على قول هؤلاء زيادة ، دخولها وخروجها سواء ، ومثل هؤلاء ذلك بقول الراجز :


نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج



بمعنى : نرجو الفرج ، فدخول الباء في ذلك عندهم في هذا الموضع وخروجها سواء .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون ) يقول : بأيكم أولى بالشيطان .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( بأيكم المفتون ) قال : أيكم أولى بالشيطان .

واختلف أهل العربية في ذلك نحو اختلاف أهل التأويل ، فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : فستبصر ويبصرون أيكم المفتون . وقال بعض نحويي الكوفة : بأيكم المفتون ها هنا ، بمعنى الجنون ، وهو في مذهب الفتون ، كما قالوا : ليس له معقول ولا معقود; قال : وإن شئت جعلت "بأيكم" : "في أيكم" في أي الفريقين المجنون; قال : وهو حينئذ اسم ليس بمصدر .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : بأيكم الجنون ، ووجه المفتون إلى الفتون بمعنى المصدر ، لأن ذلك أظهر معاني الكلام ، إذا لم ينو إسقاط الباء ، وجعلنا لدخولها وجها مفهوما .

وقد بينا أنه غير جائز أن يكون في القرآن شيء لا معنى له .

وقوله : ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ) يقول تعالى ذكره : إن ربك يا محمد هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، كضلال كفار قريش عن دين الله ، وطريق الهدى ( وهو أعلم بالمهتدين ) يقول : وهو أعلم بمن اهتدى ، فاتبع الحق ، وأقر به ، كما اهتديت أنت فاتبعت الحق ، وهذا من معاريض الكلام . وإنما معنى الكلام : إن ربك هو أعلم يا محمد بك ، وأنت المهتدي ، وبقومك من كفار قريش وأنهم الضالون عن سبيل الحق .

التالي السابق


الخدمات العلمية