الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 110 ] ( سورة الكوثر ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثلاث آيات ، مكية .

                                                                                                                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم ( إنا أعطيناك الكوثر ) .

                                                                                                                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم ( إنا أعطيناك الكوثر ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذه السورة على اختصارها فيها لطائف :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ، وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف الله تعالى المنافق بأمور أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : البخل وهو المراد من قوله : ( يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ) [ الماعون : 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : ترك الصلاة وهو المراد من قوله : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) [ الماعون : 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : المرآة في الصلاة وهو المراد من قوله : ( الذين هم يراءون ) [ الماعون : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : المنع من الزكاة وهو المراد من قوله : ( ويمنعون الماعون ) [ الماعون : 7 ] فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة ، فذكر في مقابلة البخل قوله : ( إنا أعطيناك الكوثر ) أي إنا أعطيناك الكثير ، فأعط أنت الكثير ولا تبخل ، وذكر في مقابلة : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) [ الماعون : 5 ] قوله : ( فصل ) أي دم على الصلاة ، وذكر في مقابلة : ( الذين هم يراءون ) قوله : ( لربك ) أي ائت بالصلاة لرضا ربك ، لا لمراءاة الناس ، وذكر في مقابلة : ( ويمنعون الماعون ) قوله : ( وانحر ) وأراد به التصدق بلحم الأضاحي ، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة ، ثم ختم السورة بقوله : ( إن شانئك هو الأبتر ) أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دنياه أثر ولا خبر ، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل ، وفي الآخرة الثواب الجزيل .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى الله تعالى لهم ثلاث درجات : أعلاها : أن [ ص: 111 ] يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة ، فقوله : ( إنا أعطيناك الكوثر ) إشارة إلى المقام الأول وهو كون روحه القدسية متميزة عن سائر الأرواح البشرية بالكم والكيف ، أما بالكم فلأنها أكثر مقدمات ، وأما بالكيف فلأنها أسرع انتقالا من تلك المقدمات إلى النتائج من سائر الأرواح ، وأما قوله : ( فصل لربك ) فهو إشارة إلى المرتبة الثانية ، وقوله : ( وانحر ) إشارة إلى المرتبة الثالثة ، فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح ، ثم قال : ( إن شانئك هو الأبتر ) ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة ، أنها دائرة فانية ، وإنما الباقيات الصالحات خير عند ربك ، وهي السعادات الروحانية والمعارف الربانية التي هي باقية أبدية ، ولنشرع الآن في التفسير .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إنا أعطيناك الكوثر ) اعلم أن فيه فوائد :

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور ، وكالأصل لما بعدها من السور أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور ؛ فلأن الله تعالى جعل سورة : ( والضحى ) في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله ، فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : قوله : ( ما ودعك ربك وما قلى ) [ الضحى : 2 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله : ( وللآخرة خير لك من الأولى ) [ الضحى : 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) [ الضحى : 4 ] ثم ختم هذه السورة بذكر ثلاثة أحوال من أحواله عليه السلام فيما يتعلق بالدنيا وهي قوله : (ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ) . [ الضحى : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم ذكر في سورة : ( ألم نشرح ) أنه شرفه بثلاثة أشياء :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : ( ألم نشرح لك صدرك ) [ الشرح : 1 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : ( ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ) ، [ الشرح : 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ( ورفعنا لك ذكرك ) [ الشرح : 4 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى شرفه في سورة التين بثلاثة أنواع من التشريف :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أنه أقسم ببلده وهو قوله : ( وهذا البلد الأمين ) [ التين : 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه أخبر عن خلاص أمته عن النار وهو قوله : ( إلا الذين آمنوا ) [ التين : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : وصولهم إلى الثواب وهو قوله : ( فلهم أجر غير ممنون ) [ التين : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم شرفه في سورة " اقرأ " بثلاثة أنواع من التشريفات :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : ( اقرأ باسم ربك ) [ العلق : 1 ] أي اقرأ القرآن على الحق مستعينا باسم ربك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه قهر خصمه بقوله : ( فليدع ناديه سندع الزبانية ) [ العلق : 19 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه خصه بالقربة التامة وهو : ( واسجد واقترب ) [ العلق : 19 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وشرفه في سورة القدر بليلة القدر التي لها ثلاثة أنواع من الفضيلة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : كونها : ( خير من ألف شهر ) [ القدر : 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : نزول : ( الملائكة والروح فيها ) [ القدر : 4 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : كونها : ( سلام هي حتى مطلع الفجر ) [ القدر : 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية