الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 285 ] فصل السكر

قال صاحب المنازل : ( باب السكر ) قال الله تعالى حاكيا عن موسى كليمه : رب أرني أنظر إليك .

وجه استدلاله بإشارة الآية أن موسى لما استقر في قلبه وروحه ، وسمعه وبصره الاستلذاذ بكلام ربه له ، فحصل له من سماع ذلك الكلام ، وطيب ذلك الخطاب ، ولذة ذلك التكليم ما يجل ويعظم ويكبر أن يسمى سكرا ، أو يشبه بالسكر جرى على لسانه أن طلب الرؤية له سبحانه في تلك الحال .

قال : السكر في هذا الباب اسم يشار به إلى سقوط التمالك في الطرب ، وهذا من مقامات المحبين خاصة ، فإن عيون الفناء لا تقبله ، ومنازل العلم لا تبلغه .

قوله : " يشار به إلى سقوط التمالك " يعني : عدم الصبر ، تقول : ما تمالكت أن أفعل كذا ؛ أي : ما قدرت أن أصبر عنه ، فكأنه قال : هو اسم لقوة الطرب الذي لا يدفعه الصبر .

وهذا المعنى لم يعبر عنه في القرآن ولا في السنة ، ولا العارفون من السلف بالسكر أصلا ، وإنما ذلك من اصطلاح المتأخرين ، وهو بئس الاصطلاح ؛ فإن لفظ [ ص: 286 ] السكر والمسكر من الألفاظ المذمومة شرعا وعقلا ، وعامة ما يستعمل في السكر المذموم الذي يمقته الله ورسوله قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وعبر به سبحانه عن الهول الشديد الذي يحصل للناس عند قيام الساعة فقال تعالى : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ويقال : فلان أسكره حب الدنيا ، وكذلك يستعمل في سكر الهوى المذموم ، فأين أطلق الله سبحانه أو رسوله عن الصحابة أو أئمة الطريق المتقدمون على هذا المعنى الشريف الذي هو من أشرف أحوال محبيه وعابديه اسم السكر المستعمل في سكر الخمر ، وسكر الفواحش ؟ كما قال عن قوم لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فوصف بالسكر أرباب الفواحش ، وأرباب الشراب المسكر ، فلا يليق استعماله في أشرف الأحوال والمقامات ، ولا سيما في قسم الحقائق ، ولا يطلق على كليم الرحمن اسم السكر في تلك الحال ، والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة .

وأيضا فمن المعلوم أن هذا الحال يحصل في الجنة عند رؤية الرب تعالى ، وسماع كلامه على أتم الوجوه ، ولا يسمى سكرا ، ونحن لا ننكر المعنى المشار إليه بهذا الاسم ، وإنما المنكر تسميته بهذا الاسم ، ولا سيما إذا انضاف إلى ذلك اسم الشراب أو تسمية المعارف بالخمر ، والواردات بالكؤوس ، والله جل جلاله بالساقي ، فهذه الاستعارات والتسمية هي التي فتحت هذا الباب .

وأما قوله : " وهو من مقامات المحبين خاصة " فلا بد من بيان حقيقة السكر وسببه وتولده ، وهل هو مقدور أو غير مقدور ، وبيان انقسامه باعتبار ذاته وأسبابه ومحله ، لتكون الفائدة بذلك أتم .

[ ص: 287 ] فنقول وبالله التوفيق : السكر لذة ونشوة يغيب معها العقل الذي يحصل به التمييز ، فلا يعلم صاحبه ما يقول ، قال الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فجعل الغاية التي يزول بها حكم السكر أن يعلم ما يقول ، فإذا علم ما يقول خرج عن حد السكر ، قال الإمام أحمد : السكران من لم يعرف ثوبه من ثوب غيره ، ونعله من نعل غيره ، ويذكر عن الشافعي : أنه قال : إذا اختلط كلامه المنظوم ، وأفشى سره المكتوم .

فالسكر يجمع معنيين : وجود لذة ، وعدم تمييز ، وقاصد السكر قد يقصدهما جميعا ، وقد يقصد أحدهما ، فإن النفس لها هوى وشهوات تلتذ بإدراكها ، والعلم بما في تلك اللذات من المفاسد العاجلة والآجلة يمنعها من تناولها ، والعقل يأمرها بأن لا تفعل ، فإذا زال العلم الكاشف المميز والعقل الآمر الناهي انبسطت النفس في هواها ، وصادفت مجالا واسعا .

وحرم الله سبحانه السكر لشيئين ، ذكرهما في كتابه ، وهما إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وذلك يتضمن حصول المفسدة الناشئة من النفوس بواسطة زوال العقل ، وانتفاء المصلحة التي لا تتم إلا بالعقل ، وإيقاع العداوة من الأول ، والصد عن ذكر الله من الثاني .

وقد يكون سبب السكر غير تناول المسكر : إما ألم شديد يغيب به العقل ، حتى يكون كالسكران ، وقد يكون سببه مخوف عظيم هجم عليه وهلة واحدة حتى يغيب عقل من هجم عليه ، ومن هذا قوله تعالى : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد فهم سكارى من الدهش والخوف ، وليسوا بسكارى من الشراب ، فسكرهم سكر خوف ودهش ، لا سكر لذة وطرب .

وقد يكون سببه قوة الفرح بإدراك المحبوب ، بحيث يختلط كلامه ، وتتغير أفعاله ، بحيث يزول عقله ، ويعربد أعظم من عربدة شارب الخمر ، وربما قتله سكر هذا الفرح لسبب طبيعي ، وهو انبساط دم القلب وهلة واحدة انبساطا غير معتاد ، والدم حامل الحار الغريزي ، فيبرد القلب بسبب انبساط الدم عنه ، فيحدث الموت ، ومن هذا [ ص: 288 ] قول سكران الفرح بوجد راحلته في المفازة ، بعد أن استشعر الموت " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " أخطأ من شدة فرحه ، وسكرة الفرح فوق سكرة الشراب ، فصور في نفسك حال فقير معدوم ، عاشق للدنيا أشد العشق ، ظفر بكنز عظيم ، فاستولى عليه آمنا مطمئنا ، كيف تكون سكرته ؟ أو من غاب عنه غلامه بمال له عظيم مدة سنين ، حتى أضر به العدم ، فقدم عليه من غير انتظار له بماله كله ، وقد كسب أضعافه ؟

وقد يوجبه غضب شديد ، يحول بين الغضبان وبين تمييزه ، بل قد يكون سكر الغضب أقوى من سكر الطرب ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقض القاضي بين اثنين وهو غضبان ولا يستريب من شم رائحة الفقه أن الغضب إذا وصل بصاحبه إلى هذه الحال ، فطلق لم يقع طلاقه ، وقد نص الإمام أحمد على أن الإغلاق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لا طلاق ولا عتاق في إغلاق أنه الغضب ، وقال أبو داود : أظنه الغضب ، والشافعي سمى نذر اللجاج والغضب نذر الغلق ؛ وذلك لأن الغضبان قد انغلق عليه باب القصد والتمييز بشدة غضبه ، وإذا كان الإكراه غلقا فالغضب الشديد أولى أن يكون غلقا ، وكذلك السكر غلق ، والجنون غلق . فالغلق والإغلاق أيضا كلمة جامعة لمن انغلق عليه باب القصد والتمييز بسبب من الأسباب . وقد أشبعنا الكلام في هذا في كتابنا المسمى إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان .

التالي السابق


الخدمات العلمية