الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      باب اجتهاد الرأي في القضاء

                                                                      3592 حدثنا حفص بن عمر عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن فذكر معناه [ ص: 402 ]

                                                                      التالي السابق


                                                                      [ ص: 402 ] ( لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن ) : أي واليا وقاضيا ( أجتهد برأيي ) : وفي بعض النسخ " رأيي " بحذف الباء . قال الراغب : الجهد والجهد الطاقة والمشقة والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة ، يقال : جهدت رأيي واجتهدت أتعبته بالفكر انتهى . قال في المجمع : وفي حديث معاذ " أجتهد رأيي " الاجتهاد بذل الوسع في طلب الأمر بالقياس على كتاب أو سنة انتهى .

                                                                      قال الخطابي في المعالم : يريد الاجتهاد في رد القضية من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة ، ولم يرد الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه أو يخطر بباله من غير أصل من كتاب أو سنة . وفي هذا إثبات القياس وإيجاب الحكم به انتهى . ( ولا آلو ) : بمد الهمزة متكلم من آلى يألو .

                                                                      قال الخطابي : معناه لا أقصر في الاجتهاد ولا أترك بلوغ الوسع فيه ( فضرب [ ص: 403 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ) : أي صدر معاذ رضي الله عنه ، والظاهر أن يكون صدري ففيه التفات ، ويحتمل أن يكون قائله الراوي عن معاذ نقلا عنه .

                                                                      وهذا الحديث أورده الجوزقاني في الموضوعات ، وقال : هذا حديث باطل رواه جماعة عن شعبة . وقد تصفحت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه فلم أجد له طريقا غير هذا . والحارث بن عمرو هذا مجهول ، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون ، ومثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة . فإن قيل : إن الفقهاء قاطبة أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه .

                                                                      قيل : هذا طريقه والخلف قلد فيه السلف ، فإن أظهروا طريقا غير هذا مما يثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم وهذا مما لا يمكنهم البتة انتهى . والحديث أخرجه الترمذي ، وقال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل .

                                                                      وقال الحافظ جمال الدين المزي : الحارث بن عمرو لا يعرف إلا بهذا الحديث . قال البخاري : لا يصح حديثه ولا يعرف . وقال الذهبي في الميزان : تفرد به أبو عون محمد بن عبد الله الثقفي عن الحارث ، وما روى عن الحارث غير أبي عون فهو مجهول قلت : لكن الحديث له شواهد موقوفة عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وقد أخرجها البيهقي في سننه عقب تخريجه لهذا الحديث تقوية له . كذا في مرقاة الصعود .

                                                                      قال المنذري : وأخرجه الترمذي ، وقال : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل . وقال البخاري في التاريخ الكبير : الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي عن أصحاب معاذ عن معاذ ، روى عنه أبو عون ولا يصح ولا يعرف إلا بهذا مرسل . ( لما بعثه إلى اليمن ) : قال الحافظ ابن القيم في " إعلام الموقعين عن رب [ ص: 404 ] العالمين " : وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله ، فقال شعبة : حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟ قال أقضي بما في كتاب الله ، قال فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال أجتهد رأيي لا آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدري ثم قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                      فهذا حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم . وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ، ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث ، وقد قال بعض أئمة الحديث : إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به .

                                                                      قال أبو بكر الخطيب : وقد قيل : إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم ، كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا وصية لوارث وقوله في البحر هو الطهور ماؤه والحل ميتته وقوله إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع وقوله الدية على العاقلة وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما نقلها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها ، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له انتهى كلامه .

                                                                      وقد جوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحاكم أن يجتهد رأيه ، وجعل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجرا واحدا إذا كان قصده معرفة الحق واتباعه ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض ، ويعتبرون النظير بنظيره .

                                                                      [ ص: 405 ] قال أسد بن موسى : حدثنا شعبة عن زبيد اليمامي عن طلحة بن مصرف عن مرة الطيب عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة كل قوم على بينة من أمرهم ومصلحة من أنفسهم يزرون على من سواهم ويعرف الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب وقد رواه الخطيب وغيره مرفوعا ورفعه غير صحيح وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنفهم ، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة ، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق ، وقال : لم يرد منا التأخير وإنما أراد سرعة النهوض ، فنظروا إلى المعنى ، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا ، نظروا إلى اللفظ ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس .

                                                                      ولما كان علي رضي الله عنه باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام ، فقال كل منهم هو ابني ، فأقرع علي بينهم ، فجعل الولد للقارع وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية ، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي رضي الله عنه .

                                                                      واجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة وحكم فيهم باجتهاده فصوبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات .

                                                                      واجتهد الصحابيان اللذان خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فصليا ثم وجد الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فصوبهما وقال للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ، وقال للآخر لك الأجر مرتين .

                                                                      ولما قاس مجزز المدلجي وقاف وحكم بقياسه وقيافته على أن أقدام زيد وأسامة ابنه بعضها من بعض سر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق ، وكان زيد أبيض وابنه أسامة أسود ، فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم .

                                                                      وقد تقدم قول الصديق رضي الله عنه في الكلالة : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد ، فلما استخلف عمر ، قال : إني لأستحيي من الله أن أزداد شيئا قاله أبو بكر ، وقال الشعبي عن شريح قال : قال لي عمر : اقض بما استبان لك من كتاب الله فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن لم تعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله [ ص: 406 ] وسلم فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين ، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح . وقد اجتهد ابن مسعود في المفوضة ، وقال : أقول فيها برأيي ، ووفقه الله للصواب . وقال سفيان بن عبد الرحمن الأصبهاني عن عكرمة قال : أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أساله عن زوج وأبوين فقال : للزوج النصف ، وللأم ثلث ما بقي ، وللأب بقية المال فقال : تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك ، قال : أقوله برأيي ولا أفضل أما على أب .

                                                                      وقايس علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت في المكاتب .

                                                                      وقايسه في الجد والإخوة . وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع ، وقال : عقلها سواء اعتبروها بها . قال المزني : الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم ، قال : وأجمعوا بأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل ، فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها انتهى . والله أعلم .




                                                                      الخدمات العلمية