الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7248 ) مسألة : قال : ( ومن قتل ، أو أتى حدا خارج الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم ، لم يبايع ولم يشار حتى يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد ) وجملته أن من جنى جناية توجب قتلا خارج الحرم ، ثم لجأ إليه ، لم يستوف منه فيه . وهذا قول ابن عباس ، وعطاء ، وعبيد بن عمير ، والزهري ، ومجاهد ، وإسحاق ، والشعبي ، وأبي حنيفة ، وأصحابه .

                                                                                                                                            وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس ، فعن أحمد فيه روايتان ; إحداهما : لا يستوفى من الملتجئ إلى الحرم فيه . والثانية : يستوفى . وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القتل بقوله عليه السلام : { فلا يسفك فيها دم . } وحرمة النفس أعظم ، فلا يقاس غيرها عليها ; ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب ، فلم يمنع منه ، كتأديب السيد عبده . والأولى ظاهر كلام الخرقي ، وهي ظاهر المذهب ، قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه ، أن الحدود كلها تقام في الحرم ، إلا القتل . والعمل على أن كل جان دخل الحرم ، لم يقم عليه حد جنايته حتى يخرج منه . وإن هتك حرمة الحرم بالجناية فيه ، هتكت حرمته بإقامة الحد عليه فيه .

                                                                                                                                            وقال مالك ، والشافعي ، وابن المنذر : يستوفى منه فيه ; لعموم الأمر بجلد الزاني ، وقطع السارق ، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الحرم لا يعيذ عاصيا ، ولا فارا بخربة ولا دم } { . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن حنظل وهو متعلق بأستار الكعبة } . حديث حسن صحيح . ولأنه حيوان أبيح دمه لعصيانه ، فأشبه الكلب العقور .

                                                                                                                                            [ ص: 91 ] ولنا قول الله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } . يعني الحرم ، بدليل قوله : { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } . والخبر أريد به الأمر ; لأنه لو أريد به الخبر ، لأفضى إلى وقوع الخبر خلاف المخبر . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ، أن يسفك فيها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم . وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، ثم عادت إلى حرمتها ، فلا يسفك فيها دم } . متفق عليهما .

                                                                                                                                            فالحجة فيه من وجهين ; أحدهما : أنه حرم سفك الدم بها على الإطلاق ، وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم ، فإنه لو أراد سفك الدم الحرام ، لم يختص به مكة ، فلا يكون التخصيص مفيدا . والثاني : قوله : { وإنما حلت لي ساعة من نهار ، ثم عادت حرمتها . } ومعلوم أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم ، فحرمها الحرم ، ثم أحلت له ساعة ، ثم عادت الحرمة ، ثم أكد هذا بمنعه قياس غيره عليه . والاقتداء به فيه بقوله : { فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم . } وهذا يدفع ما احتجوا به من قتل ابن حنظل ; فإنه من رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي منع الناس أن يقتدوا به فيها ، وبين أنها له على الخصوص ، وما رووه من الحديث ، فهو من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يرد به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح هذا الحديث ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع .

                                                                                                                                            وأما جلد الزاني ، وقطع السارق ، والأمر بالقصاص ، فإنما هو مطلق في الأمكنة والأزمنة ، فإنه يتناول مكانا غير معين ضرورة أنه لا بد من مكان ، فيمكن إقامته في مكان غير الحرم ، ثم لو كان عموما ، فإن ما رويناه خاص يخص به ، مع أنه قد خص مما ذكروه الحامل ، والمريض المرجو برؤه ، فتأخر الحد عنه ، وتأخر قتل الحامل ، فجاز أن يخص أيضا بما ذكرناه . والقياس على الكلب العقور غير صحيح ; فإن ذلك طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله ، فأما الأذى ، فالأصل فيه الحرمة ، وحرمته عظيمة ، وإنما أبيح لعارض ، فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فإن الحرم يعصمها . إذا ثبت هذا ، فإنه لا يبايع ولا يشارى ولا يطعم ولا يؤوى ، ويقال له : اتق الله واخرج إلى الحل ; ليستوفى منك الحق الذي قبلك . فإذا خرج استوفي حق الله منه . وهو قول جميع من ذكرناه . وإنما كان كذلك ; لأنه لو أطعم وأوي ، لتمكن من الإقامة دائما ، فيضيع الحق الذي عليه ، وإذا منع من ذلك ، كان وسيلة إلى خروجه ، فيقام فيه حق الله تعالى . وليس علينا إطعامه ، كما أن الصيد لا يصاد في الحرم ، وليس علينا القيام به

                                                                                                                                            . قال ابن عباس - رحمه الله - : من أصاب حدا ، ثم لجأ إلى الحرم ، فإنه لا يجالس ، ولا يبايع ، ولا يؤوى ، ويأتيه من يطلبه ، فيقول : أي فلان ، اتق الله . فإذا خرج من الحرم ، أقيم عليه الحد . رواه الأثرم . فإن قتل من له عليه القصاص في الحرم ، وأقام حدا بجلد أو قتل أو قطع طرف ، أساء ، ولا شيء عليه ; لأنه استوفى حقه في حال لم يكن له استيفاؤه فيه ، فأشبه ما لو اقتص في شدة الحر أو برد مفرط .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية