الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7443 ) مسألة وإذا غزا الأمير بالناس ، لم يجز لأحد أن يتعلف ، ولا يحتطب ، ولا يبارز علجا ، ولا يخرج من العسكر ، ولا يحدث حدثا ، إلا بإذنه يعني لا يخرج من العسكر لتعلف ، وهو تحصيل العلف للدواب ، ولا لاحتطاب ، ولا غيره إلا بإذن الأمير ; لقول الله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } .

                                                                                                                                            ولأن الأمير أعرف بحال الناس ، وحال العدو ، ومكامنهم ، ومواضعهم ، وقربهم وبعدهم . فإذا خرج خارج بغير إذنه ، لم يأمن أن يصادف كمينا للعدو ، فيأخذوه ، أو طليعة لهم ، أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك . وإذا كان بإذن الأمير ، لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن ، وربما يبعث معهم من الجيش من يحرسهم ويطلع لهم .

                                                                                                                                            وأما المبارزة ، فتجوز بإذن الأمير ، في قول عامة أهل العلم ، إلا الحسن ، فإنه لم يعرفها ، وكرهها . ولنا ، أن حمزة ، وعليا وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر ، بإذن النبي صلى الله عليه وسلم . وبارز علي عمرو بن عبد ود في غزوة الخندق فقتله . وبارز مرحبا يوم حنين . وقيل بارزه محمد بن مسلمة ، وبارزه قبل ذلك عامر بن الأكوع فاستشهد .

                                                                                                                                            وبارز البراء بن مالك مرزبان الزأرة فقتله ، وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفا . وروي عنه أنه قال : قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة ، سوى من شاركت فيه .

                                                                                                                                            وبارز شبر بن علقمة أسوارا فقتله ، فبلغ سلبه اثني عشر ألفا ، فنفله إياه سعد ولم يزل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبارزون في عصر النبي وبعده ، ولم ينكره منكر فكان ذلك إجماعا ، وكان أبو ذر يقسم أن قوله تعالى { هذان خصمان اختصموا في ربهم } .

                                                                                                                                            نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر ، وهم حمزة ، وعلي ، وعبيدة ، بارزوا عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة ، وقال أبو قتادة بارزت رجلا يوم حنين ، فقتلته .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فإنه ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن . وبه قال الثوري ، وإسحاق ورخص فيها مالك ، والشافعي ، وابن المنذر لخبر أبي قتادة ، فإنه لم يعلم أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أكثر من حكينا عنهم المبارزة ، لم يعلم منهم استئذان .

                                                                                                                                            ولنا أن الإمام أعلم بفرسانه وفرسان العدو ، ومتى برز الإنسان إلى من لا يطيقه ، كان معرضا نفسه للهلاك ، فيكسر قلوب المسلمين ، فينبغي أن يفوض ذلك إلى الإمام ، ليختار للمبارزة من يرضاه لها ، فيكون أقرب إلى الظفر وجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب المشركين . فإن قيل : فقد أبحتم له أن ينغمس في الكفار ، وهو سبب لقتله . قلنا : إذا كان مبارزا تعلقت قلوب الجيش به ، وارتقبوا ظفره ، فإن ظفر جبر قلوبهم ، وسرهم ، وكسر قلوب الكفار ، وإن قتل كان بالعكس ، والمنغمس يطلب الشهادة ، لا يترقب منه ظفر ولا مقاومة

                                                                                                                                            . فافترقا .

                                                                                                                                            وأما مبارزة أبي قتادة فغير لازمة ، فإنها كانت بعد التحام الحرب ، رأى رجلا يريد أن يقتل مسلما ، فضربه أبو قتادة ، فضمه ضمة كاد يقتله .

                                                                                                                                            وليس هذا هو المبارزة المختلف فيها ، بل المختلف فيها أن يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب ، [ ص: 177 ] يدعو إلى المبارزة ، فهذا هو الذي يعتبر له إذن الإمام ، لأن عين الطائفتين تمتد إليهما ، وقلوب الفريقين تتعلق بهما ، وأيهما غلب سر أصحابه ، وكسر قلوب أعدائه ، بخلاف غيره ، إذا ثبت هذا ، فالمبارزة تنقسم ثلاثة أقسام مستحبة ، ومباحة ، ومكروهة ، أما المستحبة ; فإذا خرج علج يطلب البراز ، استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الأمير .

                                                                                                                                            لأن فيه ردا عن المسلمين ، وإظهارا لقوتهم . والمباح ; أن يبتدئ الرجل الشجاع بطلبها ، فيباح ولا يستحب ; لأنه لا حاجة إليها ، ولا يأمن أن يغلب ، فيكسر قلوب المسلمين ، إلا أنه لما كان شجاعا واثقا من نفسه ، أبيح له ; لأنه بحكم الظاهر غالب ، والمكروه أن يبرز الضعيف المنة ، الذي لا يثق من نفسه ، فتكره له المبارزة ; لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا .

                                                                                                                                            ( 7444 ) فصل : إذا خرج كافر يطلب البراز ، جاز رميه وقتله ; لأنه مشرك لا عهد له ، ولا أمان له ، فأبيح قتله كغيره ، إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج يطلب المبارزة لا يعرض له ، فيجري ذلك مجرى الشرط . وإذا خرج إليه أحد يبارزه بشرط أن لا يعينه عليه سواه وجب الوفاء بشرطه ; لأن المؤمنين عند شروطهم ، فإن انهزم المسلم تاركا للقتال ، أو مثخنا بجراحته ، جاز لكل أحد قتاله ; لأن المسلم إذا صار إلى هذه الحال فقد انقضى قتاله ، وإن كان المسلم شرط عليه أن لا يقاتل حتى يرجع إلى صفه وفى له بالشرط ، إلا أن يترك قتاله ، أو أثخنه بالجراح ، فيتبعه ليقتله ، أو يجهز عليه ، فيجوز أن يحولوا بينه وبينه ، فإن قاتلهم قاتلوه ; لأنه إذا منعهم إنقاذه فقد نقض أمانه .

                                                                                                                                            وإن أعان الكفار صاحبهم ، فعلى المسلمين أن يعينوا صاحبهم أيضا ، ويقاتلوا من أعان عليه ، ولا يقاتلونه ; لأنه ليس بصنع من جهته ، فإن كان قد استنجدهم ، أو علم منه الرضا بفعلهم ، صار ناقضا لأمانه ، وجاز لهم قتله . وذكر الأوزاعي أنه ليس للمسلمين معاونة صاحبهم ، وإن أثخن بالجراح . قيل له : فخاف المسلمون على صاحبهم ؟ قال : وإن ; لأن المبارزة إنما تكون هكذا ، ولكن لو حجزوا بينهما ، وخلوا سبيل العلج .

                                                                                                                                            قال : فإن أعان العدو صاحبهم ، فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم . ولنا ، أن حمزة ، وعليا أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن ربيعة ، حين أثخن عبيدة

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية