الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7462 ) مسألة : ( وينفل الإمام ومن استخلفه الإمام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بدأته الربع بعد الخمس ، وفي رجعته الثلث بعد الخمس ) النفل زيادة تزاد على سهم الغازي ، ومنه نفل الصلاة ، وهو ما زيد على الفرض ، وقول الله تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } . كأنه سأل الله ولدا ، فأعطاه ما سأل وزاده ولد الولد ، والمراد بالبداية ها هنا ، ابتداء دخول الحرب ، والرجعة رجوعه عنها .

                                                                                                                                            والنفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام ; أحدها ، هذا الذي ذكره الخرقي ، وهو أن الإمام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازيا ، بعث بين يديه سرية تغير على العدو ، ويجعل لهم الربع بعد الخمس ، فما قدمت به السرية من شيء ، أخرج خمسه ، ثم أعطى السرية ما جعل لهم ، وهو ربع الباقي ، وذلك خمس آخر ، ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية معه . فإذا قفل ، بعث سرية تغير ، وجعل لهم الثلث بعد الخمس ، فما قدمت به السرية أخرج خمسه ، ثم أعطى السرية ثلث ما بقي ، ثم قسم سائره في الجيش والسرية معه . وبهذا قال حبيب بن مسلمة ، والحسن ، والأوزاعي ، وجماعة ، ويروى عن عمرو بن شعيب ، أنه قال : لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            ولعله يحتج بقوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } فخصه بها ، وكان سعيد بن المسيب ، ومالك يقولان : لا نفل إلا من الخمس . وقال الشافعي : يخرج من خمس الخمس ; لما روى ابن عمر { ، أن رسول الله بعث سرية فيها عبد الله بن عمر . فغنموا إبلا كثيرة ، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا . } متفق عليه . ولو أعطاهم من أربعة الأخماس التي هي لهم ، لم يكن نفلا ، وكان من [ ص: 184 ] سهامهم ولنا ما روى حبيب بن مسلمة الفهري ، قال : { شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البداءة ، والثلث في الرجعة } . وفي لفظ { : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس ، والثلث بعد الخمس إذا قفل } رواهما أبو داود

                                                                                                                                            وعن عبادة بن الصامت { ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البداءة الربع ، وفي القفول الثلث } . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وفي لفظ قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفلهم إذا خرجوا بادين الربع وينفلهم إذا قفلوا الثلث } . رواه الخلال بإسناده .

                                                                                                                                            وروى الأثرم ، بإسناده عن جرير بن عبد الله البجلي ، أنه لما قدم على عمر في قومه ، قال له عمر : هل لك أن تأتي الكوفة ، ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشيء ؟ وذكره ابن المنذر أيضا عن عمر . وقال إبراهيم النخعي : ينفل السرية الثلث والربع يغريهم بذلك . فأما قول عمرو بن شعيب ، فإن مكحولا قال له حين قال : لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذكر له حديث حبيب بن مسلمة : شغلك أكل الزبيب بالطائف . وما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم ثبت للأئمة بعده ، ما لم يقم على تخصيصه به دليل .

                                                                                                                                            فأما حديث ابن عمر ، فهو حجة عليهم ، فإن بعيرا على اثني عشر ، يكون جزءا من ثلاثة عشر ، وخمس الخمس جزء من خمسة وعشرين ، وجزء من ثلاثة عشر أكثر ، فلا يتصور أخذ الشيء من أقل منه ، يحققه أن الاثني عشر إذا كانت أربعة أخماس ، والبعير منها ثلث الخمس ، فكيف يتصور أخذ ثلث الخمس من خمس الخمس ؟ فهذا محال ، فتعين أن يكون ذلك من غيره ، أو أن النفل كان للسرية دون سائر الجيش . على أن ما رويناه صريح في الحكم ، فلا يعارض بشيء مستنبط ، يحتمل غير ما حمله عليه من استنبطه .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فظاهر كلام أحمد أنهم إنما يستحقون هذا النفل بالشرط السابق ، فإن لم يكن شرطه لهم فلا ، فإنه قيل له : أليس قد نفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداءة الربع ، وفي الرجوع الثلث ؟ قال : نعم ، ذاك إذا نفل ، وتقدم القول فيه . فعلى هذا إن رأى الإمام أن ينفلهم شيئا ، فله ذلك ، وإن رأى أن ينفلهم دون الثلث والربع ، فله ذلك ; لأنه إذا جاز أن لا يجعل لهم شيئا ، جاز أن يجعل لهم يسيرا ، ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث ، نص عليه أحمد . وهو قول مكحول ، والأوزاعي ، والجمهور من العلماء .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : لا حد للنفل ، بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفل مرة الثلث ، وأخرى الربع . وفي حديث ابن عمر : نفل نصف السدس . فهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يتجاوزه الإمام ، فينبغي أن يكون موكولا إلى اجتهاده . ولنا ، أن نفل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الثلث ، فينبغي أن لا يتجاوزه ، وما ذكره الشافعي يدل على أنه ليس لأقل النفل حد ، وأنه يجوز أن ينفل أقل من الثلث والربع ، ونحن نقول به ، على أن هذا القول مع قوله : أن النفل من خمس الخمس تناقض .

                                                                                                                                            فإن شرط لهم الإمام زيادة على الثلث ، ردوا إليه ، وقال الأوزاعي : لا ينبغي أن [ ص: 185 ] يشرط النصف ، فإن زادهم على ذلك ، فليف لهم به ، ويجعل ذلك من الخمس . وإنما زيد في الرجعة على البداءة في النفل ; لمشقتها ، فإن الجيش في البداءة ردء للسرية ، تابع لها ، والعدو خائف ، وربما كان غارا ، وفي الرجعة لا ردء للسرية ; لأن الجيش منصرف عنهم ، والعدو مستيقظ كلب .

                                                                                                                                            قال أحمد : في البداءة إذا كان ذاهبا الربع ، وفي القفلة إذا كان في الرجوع الثلث ; لأنهم يشتاقون إلى أهليهم ، فهذا أكبر . القسم الثاني ، أن ينفل الإمام بعض الجيش ; لغنائه وبأسه وبلائه ، أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش . قال أحمد : في الرجل يأمره الأمير يكون طليعة ، أو عنده ، يدفع إليه رأسا من السبي أو دابة ، قال : إذا كان رجل له غناء ، ويقاتل في سبيل الله ، فلا بأس بذلك ، ذلك أنفع لهم ، يحرض هو وغيره ، يقاتلون ويغنمون . وقال : إذا نفذ الإمام صبيحة المغار الخيل ، فيصيب بعضهم ، وبعضهم لا يأتي بشيء ، فللوالي أن يخص بعض هؤلاء الذين جاءوا بشيء دون هؤلاء .

                                                                                                                                            وظاهر هذا أن له إعطاء من هذه حاله من غير شرط . وحجة هذا حديث سلمة بن الأكوع ، أنه قال : أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعتهم - فذكر الحديث - فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل . رواه مسلم ، وأبو داود . وعنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم { أمر أبا بكر ، قال فبيتنا عدونا ، فقتلت ليلتئذ تسعة أهل أبيات وأخذت منهم امرأة ، فنفلنيها أبو بكر ، فلما قدمت المدينة ، استوهبها مني رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبتها له } . رواه مسلم بمعناه .

                                                                                                                                            القسم الثالث ، أن يقول الأمير : من طلع هذا الحصن ، أو هدم هذا السور ، أو نقب هذا النقب ، أو فعل كذا ، فله كذا . أو : من جاء بأسير ، فله كذا . فهذا جائز ، في قول أكثر أهل العلم ; منهم الثوري ، قال أحمد : إذا قال : من جاء بعشر دواب ، أو بقر ، أو غنم ، فله واحد .

                                                                                                                                            فمن جاء بخمسة أعطاه نصف ما قال لهم ، ومن جاء بشيء أعطاه بقدره . قيل له : إذا قال : من جاء بعلج فله كذا وكذا . فجاء بعلج ، يطيب له ما يعطى ؟ قال : نعم . وكره مالك هذا القسم ، ولم يره ، وقال : قتالهم على هذا الوجه إنما هو للدنيا . وقال هو وأصحابه : لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة . قال مالك : ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من قتل قتيلا فله سلبه } . إلا بعد أن برد القتال .

                                                                                                                                            ولنا ، ما تقدم من حديث حبيب ، وعبادة ، وما شرطه عمر ، لجرير بن عبد الله ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من قتل قتيلا فله سلبه } . ولأن فيه مصلحة وتحريضا على القتال ، فجاز ، كاستحقاق الغنيمة ، وزيادة السهم للفارس ، واستحقاق السلب ، وما ذكروه يبطل بهذه المسائل . وقوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل السلب للقاتل بعد أن برد القتال .

                                                                                                                                            قلنا : قوله ذلك ثابت الحكم فيما يأتي من الغزوات بعد قوله ، فهو بالنسبة إليها كالمشروط في أول الغزاة . قال القاضي : ولا يجوز هذا ، إلا إذا كان فيه مصلحة للمسلمين ، فإن لم يكن فيه فائدة ، لم يجز ; لأنه إنما يخرج على وجه المصلحة ، فاعتبرت الحاجة فيه ، كأجرة الحمال والحافظ .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فإن النفل لا يختص بنوع من [ ص: 186 ] المال . وذكر الخلال أنه لا نفل في الدراهم والدنانير . وهو قول الأوزاعي ; لأن القاتل لا يستحق شيئا منها ، فكذلك غيره . ولنا ، حديث حبيب بن مسلمة ، وعبادة ، وجرير ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لهم الثلث والربع ، وهو عام في كل ما غنموه ، ولأنه نوع مال ، فجاز النفل فيه ، كسائر الأموال .

                                                                                                                                            وأما القاتل ، فإنما نفل السلب ، وليست الدراهم والدنانير من السلب ، فلم يستحق غير ما جعل له .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية