الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7478 ) مسألة قال : ( ومن أعطاهم الأمان منا ; من رجل ، أو امرأة ، أو عبد ، جاز أمانه ) وجملته أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب ، حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم . ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ، ذكرا كان أو أنثى ، حرا كان أو عبدا . وبهذا قال الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق ، وابن القاسم ، وأكثر أهل العلم .

                                                                                                                                            وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : لا يصح أمان العبد ، إلا أن يكون مأذونا له في القتال ; لأنه لا يجب عليه الجهاد ، فلا يصح أمانه ، كالصبي ، ولأنه مجلوب من دار الكفر ، فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم . ولنا ، ما روي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : { ذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلما ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل } . رواه البخاري .

                                                                                                                                            وروى فضيل بن يزيد الرقاشي ، قال : جهز عمر بن الخطاب جيشا ، فكنت فيه ، فحصرنا موضعا ، فرأينا أنا سنفتحها اليوم ، وجعلنا نقبل ونروح ، فبقي عبد منا ، فراطنهم وراطنوه ، فكتب لهم الأمان في صحيفة ، وشدها على سهم ، ورمى بها إليهم ، فأخذوها ، وخرجوا ، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب ، فقال : العبد المسلم رجل من المسلمين ، ذمته ذمتهم . رواه سعيد .

                                                                                                                                            ولأنه مسلم مكلف ، فصح أمانه ، كالحر . وما ذكروه من التهمة يبطل بما إذا أذن له القتال ، فإنه يصح أمانه ، وبالمرأة ، فإن أمانها يصح ، في قولهم جميعا . قالت عائشة : إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز . وعن أم هانئ ، أنها قالت : يا رسول الله ، إني أجرت أحمائي ، وأغلقت عليهم ، وإن ابن أمي أراد قتلهم . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، إنما يجهر على المسلمين أدناهم } . رواهما سعيد . وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع ، فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 7479 ) فصل : ويصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره ; لدخوله في عموم الخبر ، ولأنه مسلم مكلف مختار ، فأشبه غير الأسير .

                                                                                                                                            وكذلك أمان الأجير والتاجر في دار الحرب . وبهذا قال الشافعي . وقال الثوري : لا يصح أمان أحد منهم . [ ص: 196 ] ولنا عموم الحديث ، والقياس على غيرهم . فأما الصبي المميز ، فقال ابن حامد : فيه روايتان ; إحداهما ، لا يصح أمانه . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ; لأنه غير مكلف ، ولا يلزمه بقوله حكم ، فلا يلزم غيره ، كالمجنون . والرواية الثانية ، يصح أمانه . وهو قول مالك . وقال أبو بكر : يصح أمانه ، رواية واحدة . وحمل رواية المنع على غير المميز ، واحتج بعموم الحديث ، ولأنه مسلم مميز ، فصح أمانه ، كالبالغ ، وفارق المجنون ، فإنه لا قول له أصلا .

                                                                                                                                            ( 7480 ) فصل : ولا يصح أمان كافر ، وإن كان ذميا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم . } فجعل الذمة للمسلمين ، فلا تحصل لغيرهم ، ولأنه متهم على الإسلام وأهله ، فأشبه الحربي . ولا يصح أمان مجنون ، ولا طفل ، لأن كلامه غير معتبر ، ولا يثبت به حكم . ولا يصح أمان زائل العقل ، بنوم أو سكر أو إغماء ; لذلك ، ولأنه لا يعرف المصلحة من غيرها ، فأشبه المجنون .

                                                                                                                                            ولا يصح من مكره ; لأنه قول أكره عليه بغير حق ، فلم يصح ، كالإقرار . ( 7481 ) فصل : ويصح أمان الإمام لجميع الكفار وآحادهم ; لأن ولايته عامة على المسلمين . ويصح أمان الأمير لمن أقيم بإزائه من المشركين ، فأما في حق غيرهم ، فهو كآحاد المسلمين ، لأن ولايته على قتال أولئك دون غيرهم .

                                                                                                                                            ويصح أمان آحاد المسلمين للواحد ، والعشرة ، والقافلة الصغيرة ، والحصن الصغير ; لأن عمر رضي الله عنه أجاز أمان العبد لأهل الحصن الذي ذكرنا حديثه . ولا يصح أمانه لأهل بلدة ، ورستاق ، وجمع كثير ; لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد ، والافتيات على الإمام . ( 7482 ) فصل : ويصح أمان الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه ; لأن عمر رضي الله عنه لما قدم عليه بالهرمزان أسيرا ، قال : لا بأس عليك ، ثم أراد قتله ، فقال له أنس : قد أمنته ، فلا سبيل لك عليه . وشهد الزبير بذلك ، فعدوه أمانا . رواه سعيد .

                                                                                                                                            ولأن للإمام المن عليه ، والأمان دون ذلك . فأما آحاد الرعية ، فليس له ذلك . وهذا مذهب الشافعي . وذكر أبو الخطاب ، أنه يصح أمانه ; لأن زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره ، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم أمانها . وحكي هذا عن الأوزاعي . ولنا ، أن أمر الأسير مفوض إلى الإمام ، فلم يجز الافتيات عليه فيما يمنعه ذلك ، كقتله .

                                                                                                                                            وحديث زينب في أمانها ، إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم ( 7483 ) فصل : وإذا شهد للأسير اثنان أو أكثر من المسلمين ، أنهم أمنوه ، قبل ، إذا كانوا بصفة الشهود . وقال الشافعي : لا تقبل شهادتهم ; لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم . ولنا ، أنهم عدول من المسلمين ، غير متهمين ، شهدوا بأمانه ، فوجب أن يقبل كما لو شهدوا على غيرهم أنه أمنه .

                                                                                                                                            وما ذكروه لا يصح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة المرضعة على فعلها ، في حديث عقبة بن الحارث . وإن شهد واحد أني [ ص: 197 ] أمنته . فقال القاضي : قياس قول أحمد ، أنه يقبل ، كما لو قال الحاكم بعد عزله : كنت حكمت لفلان على فلان بحق . قبل قوله . وعلى قول أبي الخطاب : يصح أمانه ، فقبل خبره به ، كالحاكم في حال ولايته . وهذا قول الأوزاعي . ويحتمل أن لا يقبل ; لأنه ليس له أن يؤمنه في الحال ، فلم يقبل إقراره به ، كما لو أقر بحق على غيره . وهذا قول الشافعي ، وأبي عبيدة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية