الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم دخلت سنة ست عشرة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت هذه السنة وسعد بن أبي وقاص منازل مدينة بهرسير ، وهي إحدى مدينتي كسرى مما يلي دجلة من الغرب ، وكان قدوم سعد إليها في ذي الحجة من سنة خمس عشرة ، واستهلت هذه السنة وهو نازل عندها ، وقد بعث السرايا والخيول في كل وجه ، فلم يجدوا واحدا من الجند ، بل جمعوا من الفلاحين مائة الف ، فحبسوا حتى كتب إلى عمر ما يفعل بهم ، فكتب إليه عمر : إن من كان من الفلاحين لم يعن عليكم ، وهو مقيم ببلده ، فهو أمانه ، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به . فأطلقهم سعد بعد ما دعاهم إلى الإسلام ، فأبوا إلا الجزية ، ولم يبق من غربي دجلة إلى أرض العرب أحد من الفلاحين إلا تحت الجزية والخراج .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وامتنعت بهرسير من سعد أشد الامتناع ، وقد بعث إليهم سعد سلمان [ ص: 6 ] الفارسي فدعاهم إلى الله ، عز وجل ، أو الجزية أو المقاتلة ، فأبوا إلا المقاتلة والعصيان ، ونصبوا المجانيق والدبابات ، وأمر سعد بعمل المجانيق ، فعملت عشرون منجنيقا ، ونصبت على بهرسير ، واشتد الحصار وكان أهل بهرسير يخرجون فيقاتلون قتالا شديدا ، ويحلفون أن لا يفروا أبدا ، فأكذبهم الله ، وهزمهم زهرة بن حوية بعد ما أصابه سهم ، وقتل بعد مصابه به كثيرا من الفرس ، وفروا بين يديه ، ولجئوا إلى بلدهم ، فكانوا يحاصرون فيه أشد الحصار ، وقد انحصر أهل البلد حتى أكلوا الكلاب والسنانير . وقد أشرف رجل منهم على المسلمين فقال : يقول لكم الملك : هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم ، أما شبعتم ! لا أشبع الله بطونكم . قال : فبدر الناس رجل ، يقال له : أبو مفزر الأسود بن قطبة ، فأنطقه الله بكلام لم يدر ما قال لهم ، قال : فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون من بهرسير إلى المدائن . فقال الناس لأبي مفزر : ما قلت لهم ؟ فقال : والذي بعث محمدا بالحق ما أدري ما قلت لهم ، إلا أن علي سكينة ، وأنا [ ص: 7 ] أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير . وجعل الناس ينتابونه ، يسألونه عن ذلك ، وكان في من سأله سعد بن أبي وقاص ، وجاءه سعد إلى منزله فقال : يا أبا مفرز ما قلت ؟ فوالله إنهم هراب . فحلف له أنه لا يدري ما قال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فنادى سعد في الناس ونهد بهم إلى البلد ، والمجانيق تضرب في البلد ، فنادى رجل من البلد بالأمان فآمناه ، فقال : والله ما بالبلد أحد . فتسور الناس السور ، فما وجدنا فيها أحدا إلا قد هربوا إلى المدائن . وذلك في شهر صفر من هذه السنة . فسألنا ذلك الرجل وأناسا من الأسارى فيها لأي شيء هربوا ؟ قالوا : بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح ، فأجابه ذلك الرجل بأنه لا يكون بينكم وبينهم صلح أبدا ، حتى نأكل عسل أفرندين بأترج كوثى . فقال الملك : يا ويلاه ، إن الملائكة لتتكلم على ألسنتهم ، ترد علينا وتجيبنا عن العرب . ثم أمر الناس بالرحيل من هناك إلى المدائن فجازوا في السفن منها إليها ، وبينهما دجلة ، وهي قريبة منها جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 8 ] ولما دخل المسلمون بهرسير في الليل ، لاح لهم القصر الأبيض من المدائن وهو قصر الملك الذي ذكره رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أنه سيفتحه الله على أمته ، وذلك قريب الصباح ، فكان أول من رآه من المسلمين ضرار بن الخطاب ، فقال : الله أكبر ، أبيض كسرى ، هذا ما وعدنا الله ورسوله . ونظر الناس إليه فتابعوا التكبير إلى الصبح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية