الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( فصرهن إليك )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والبصرة : ( فصرهن إليك ) بضم الصاد من قول القائل : " صرت إلى هذا الأمر " . إذا ملت إليه " أصور صورا " ويقال : " إني إليكم لأصور " أي : مشتاق مائل ، ومنه قول الشاعر :


الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى أحبابنا صور



وهو جمع " أصور ، وصوراء ، وصور " مثل أسود وسوداء وسود " . ومنه قول الطرماح :

[ ص: 496 ]

عفائف إلا ذاك أو أن يصورها     هوى ، والهوى للعاشقين صروع



يعني بقوله : " أو أن يصورها هوى " يميلها .

فمعنى قوله : ( فصرهن إليك ) اضممهن إليك ووجههن نحوك ، كما يقال : " صر وجهك إلي " أي أقبل به إلي . ومن وجه قوله : ( فصرهن إليك ) إلى هذا التأويل كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه . ويكون معناه حينئذ عنده : قال : ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، ثم قطعهن ، ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) .

وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم " الصاد " : قطعهن ، كما قال توبة بن الحمير :


فلما جذبت الحبل أطت نسوعه     بأطراف عيدان شديد أسورها
فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها     بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها



[ ص: 497 ] يعني : يقطعها . وإذا كان ذلك تأويل قوله : ( فصرهن ) ، كان في الكلام تقديم وتأخير ، ويكون معناه : فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن ويكون " إليك " من صلة " خذ " .

وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : " فصرهن إليك " بالكسر ، بمعنى قطعهن .

وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون : " فصرهن " ولا " فصرهن " بمعنى قطعهن في كلام العرب ، وأنهم لا يعرفون كسر " الصاد " وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد ، وأنهما جميعا لغتان بمعنى " الإمالة " وأن كسر " الصاد " منها لغة في هذيل وسليم ; وأنشدوا لبعض بني سليم : .


وفرع يصير الجيد وحف كأنه     على الليت قنوان الكروم الدوالح

[ ص: 498 ]

يعني بقوله : " يصير " يميل وأن أهل هذه اللغة يقولون : " صاره وهو يصيره صيرا " " وصر وجهك إلي " أي أمله ، كما تقول : " صره " .

وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله : ( فصرهن ) ولا لقراءة من قرأ : " فصرهن " بضم " الصاد " وكسرها ، وجها في التقطيع ، إلا أن يكون " فصرهن إليك " في قراءة من قرأه بكسر " الصاد " من المقلوب ، وذلك أن تكون " لام " فعله جعلت مكان عينه ، وعينه مكان لامه ، فيكون من " صرى يصري صريا " فإن العرب تقول : " بات يصري في حوضه " : إذا استقى ، ثم قطع واستقى ، ومن ذلك قول الشاعر : .


صرت نطرة لو صادفت جوز دارع     غدا والعواصي من دم الجوف تنعر



" صرت " قطعت نظرة ، ومنه قول الآخر :


يقولون إن الشأم يقتل أهله     فمن لي إذا لم آته بخلود
تعرب آبائي ، فهلا صراهم     من الموت أن لم يذهبوا وجدودي ! ؟

[ ص: 499 ]

يعني : قطعهم ، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل ، وحولت عينها فجعلت لامها ، فقيل : " صار يصير " كما قيل : " عثي يعثى عثا " ثم حولت لامها ، فجعلت عينها ، فقيل : " عاث يعيث .

فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا : ( فصرهن إليك ) سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معني به في هذا الموضع التقطيع . قالوا : وهما لغتان : إحداهما : " صار يصور " والأخرى : " صار يصير " واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل . وببيت المعلى بن جمال العبدي .


وجاءت خلعة دهس صفايا     يصور عنوقها أحوى زنيم

[ ص: 500 ]

بمعنى : يفرق عنوقها ويقطعها . وببيت خنساء :


لظلت الشم منها وهي تنصار



يعني بالشم : الجبال ، أنها تتصدع وتتفرق . وببيت أبي ذؤيب :


فانصرن من فزع وسد فروجه     غبر ضوار : وافيان وأجدع



قالوا : فلقول القائل : " صرت الشيء " معنيان : أملته ، وقطعته . وحكوا سماعا : " صرنا به الحكم " : فصلنا به الحكم . [ ص: 501 ]

قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين : من أن معنى الضم في " الصاد " من قوله : ( فصرهن إليك ) والكسر سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان ، معناهما في هذا الموضع : فقطعهن - وأن معنى " إليك " تقديمها قبل " فصرهن " من أجل أنها صلة قوله : " فخذ " أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويي الكوفيين ، الذين أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله : ( فصرهن ) غير خارج من أحد معنيين : إما " قطعهن " وإما " اضممهن إليك " بالكسر قرئ ذلك أو بالضم . ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها ، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين - أعني الكسر والضم - أوضح الدليل على صحة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول ، وخطأ قول نحويي الكوفيين ; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله : ( فصرهن ) بمعنى فقطعهن ، على أن أصل الكلام " فاصرهن " ثم قلبت فقيل : " فصرهن " بكسر " الصاد " لتحول " ياء " " فاصرهن " مكان رائه ، وانتقال رائه مكان يائه ، لكان لا شك - مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم - قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده ، وبينه إذا قرئ بضمها ، إذ كان غير جائز لمن قلب " فاصرهن " إلى " فصرهن " أن يقرأه " فصرهن " بضم " الصاد " وهم - مع اختلاف قراءتهم ذلك - قد تأولوه تأويلا واحدا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا . ففي ذلك أوضح الدليل على خطأ قول من قال : إن ذلك إذا قرئ بكسر " الصاد " بتأويل التقطيع ، مقلوب من : " صري يصرى " إلى " صار يصير " وجهل من زعم أن قول القائل : " صار يصور " و " صار يصير " غير معروف في كلام العرب بمعنى قطع . [ ص: 502 ]

ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله - تعالى ذكره - : ( فصرهن ) أنه بمعنى : فقطعهن .

5994 - حدثنا سليمان بن عبد الجبار قال : حدثنا محمد بن الصلت قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( فصرهن ) قال : هي نبطية ، فشققهن .

5995 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، قال : إنما هو مثل . قال : قطعهن ، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا ، ربعا ههنا ، وربعا ههنا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا .

5996 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( فصرهن ) قال : قطعهن .

5997 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : ( فصرهن إليك ) يقول : قطعهن .

5998 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك مثله .

5999 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن [ ص: 503 ] جعفر ، عن سعيد : ( فصرهن ) قال : قال : جناح ذه عند رأس ذه ، ورأس ذه عند جناح ذه .

6000 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم أبو عمرو ، عن عكرمة في قوله : ( فصرهن إليك ) قال : قال عكرمة بالنبطية : قطعهن .

6001 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن يحيى ، عن مجاهد : ( فصرهن إليك ) قال : قطعهن .

6002 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فصرهن إليك ) انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا ، ثم اخلط لحومهن بريشهن .

6003 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فصرهن إليك ) قال : انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا .

6004 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فصرهن إليك ) أمر نبي الله - عليه السلام - أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن .

6005 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( فصرهن إليك ) قال : فمزقهن . قال : أمر أن يخلط الدماء بالدماء ، والريش بالريش ، " ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا " .

6006 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا [ ص: 504 ] عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك : ( فصرهن إليك ) يقول : فشققهن ، وهو بالنبطية " صرى " وهو التشقيق .

6007 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( فصرهن إليك ) يقول قطعهن .

6008 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( فصرهن إليك ) يقول : قطعهن إليك ومزقهن تمزيقا .

6009 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فصرهن إليك ) أي قطعهن ، وهو " الصور " في كلام العرب .

قال أبو جعفر : ففيما ذكرنا من أقوال - من روينا قوله في تأويل قوله : ( فصرهن إليك ) أنه بمعنى : فقطعهن إليك - دلالة واضحة على صحة ما قلنا في ذلك ، وفساد قول من خالفنا فيه .

وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء قرأ القارئ ذلك بضم " الصاد " : " فصرهن " إليك أو كسرها " فصرهن " إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد . غير أن الأمر - وإن كان كذلك - فإن أحبهما إلي أن أقرأ به " فصرهن إليك " بضم " الصاد " ؛ لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما ، وأكثرهما في أحياء العرب .

[ وأما قول من تأول قوله : ( فصرهن إليك ) بمعنى : اضممهن إليك ووجهن نحوك واجمعهن ، فهو قول قال به من أهل التأويل نفر قليل ] . [ ص: 505 ]

ذكر من قال ذلك :

6010 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فصرهن إليك ) " صرهن " : أوثقهن .

6011 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء قوله : ( فصرهن إليك ) قال : اضممهن إليك .

6012 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( فصرهن إليك ) قال : اجمعهن .

التالي السابق


الخدمات العلمية