الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2032 ) الفصل الرابع : إذا قبل فأمنى أو أمذى ، ولا يخلو المقبل من ثلاثة أحوال ; أحدها ، أن لا ينزل ، فلا يفسد صومه بذلك ، لا نعلم فيه خلافا ; لما روت عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يقبل وهو صائم ، وكان أملككم لإربه } ، رواه البخاري ، ومسلم . ويروى بتحريك الراء وسكونها ، قال الخطابي : معناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها ، وقيل بالتسكين : العضو . وبالفتح : الحاجة . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : { هششت فقبلت وأنا صائم ، فقلت : يا رسول الله : صنعت اليوم أمرا عظيما ، قبلت وأنا صائم . فقال : أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم ؟ قلت : لا بأس به ، قال : فمه ؟ . } رواه أبو داود . شبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الشهوة ، وأن المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر ، وإن كان معها نزوله أفطر . إلا أن أحمد ضعف هذا الحديث ، وقال : هذا ريح ، ليس من هذا شيء .

                                                                                                                                            الحال الثاني ، أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه ; لما ذكرناه من إيماء الخبرين ، ولأنه إنزال بمباشرة ، فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج . الحال الثالث ، أن يمذي فيفطر عند إمامنا ومالك . وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يفطر . وروي ذلك عن الحسن ، والشعبي ، والأوزاعي ، لأنه خارج لا يوجب الغسل ، أشبه البول . ولنا أنه خارج تخلله الشهوة ، خرج بالمباشرة ، فأفسد الصوم ، كالمني ، وفارق البول بهذا ، واللمس لشهوة كالقبلة في هذا . إذا ثبت هذا ، فإن المقبل إذا كان ذا شهوة مفرطة ، بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل ، لم تحل له القبلة ; لأنها مفسدة لصومه ، فحرمت ، كالأكل . وإن كان ذا شهوة ، لكنه لا يغلب على ظنه ذلك ، كره له التقبيل ; لأنه يعرض صومه للفطر ، ولا يأمن عليه الفساد .

                                                                                                                                            وقد روي عن عمر ، أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، فأعرض عني ، فقلت له : ما لي ؟ فقال : " إنك تقبل وأنت صائم " . ولأن العبادة إذا منعت الوطء منعت القبلة ، كالإحرام . ولا تحرم القبلة في هذه الحال ; لما روي { أن رجلا قبل وهو صائم ، فأرسل امرأته ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبل وهو صائم ، فقال الرجل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مثلنا ، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إني لأخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي } . رواه مسلم بمعناه . ولأن إفضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه ، ولا يثبت التحريم بالشك ، فأما إن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته ، كالشيخ الهرم ، ففيه روايتان ; إحداهما ، لا يكره له ذلك .

                                                                                                                                            وهو مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم لما كان مالكا لإربه ، وغير ذي الشهوة في معناه . وقد روى أبو هريرة { أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم ، فرخص له ، فأتاه آخر ، فسأله ، فنهاه ، فإذا الذي رخص له شيخ ، وإذا الذي نهاه شاب } . أخرجه أبو داود . ولأنها مباشرة لغير شهوة ، فأشبهت لمس اليد لحاجة . [ ص: 21 ] والثانية ، يكره ; لأنه لا يأمن حدوث الشهوة ، ولأن الصوم عبادة تمنع الوطء ، فاستوى في القبلة فيها من تحرك شهوته ، وغيره ، كالإحرام . فأما اللمس لغير شهوة ، كلمس يدها ليعرف مرضها ، فليس بمكروه بحال ; لأن ذلك لا يكره في الإحرام ، فلا يكره في الصيام ، كلمس ثوبها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية