الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ثم ذكر حكم السجود لغير الله ; لأنه من متعلقات السلام .

مطلب : السجود يرد لمعان : وليس لغير الله حل سجودنا ويكره تقبيل الثرى بتشدد ( وليس لغير الله ) عز وجل ( حل ) أي شرع ( سجودنا ) معشر العباد ، وأما للملك الجواد ، فقد شرعه جل شأنه ، فتارة يكون فرضا ، وأخرى طاعة ونفلا .

قال أبو بكر بن الأنباري من أئمة مذهبنا : السجود يرد لمعان ، منها الانحناء والميل من قولهم سجدت الدابة وأسجدت إذا خفضت رأسها لتركب . ومنها الخشوع والتواضع .

ومنها التحية ، وقال في قوله تعالى { وخروا له سجدا } أنهم سجدوا ليوسف إكراما وتحية ، وأنه كان يحيي بعضهم بعضا بذلك وبالانحناء فحظره رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذكر كلامه الإمام الحافظ ابن الجوزي ولم يخالفه ، فدل على موافقته .

وأما الإمام ابن القيم في الهدي فجزم بتحريم السجود والانحناء والقيام على الرأس وهو [ ص: 330 ] جالس . وقال ابن السكيت : يقال : سجد الرجل إذا طأطأ رأسه ، وسجد إذا وضع جبهته بالأرض انتهى .

فإذا كان السجود بوضع الجبهة على الأرض لا يحل لغير الله ; لأنه لا خضوع أعظم منه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها } رواه الإمام أحمد .

وروى الحافظ أبو نعيم من طريق غيلان بن سلمة الثقفي قال { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فرأينا منه عجبا ، جاء رجل فقال يا رسول الله إنه كان لي حائط فيه عيش عيالي ولي فيه ناضحان فحلان قد منعاني أنفسهما وحائطي وما فيه فلا يقدر أحد أن يدنو منهما ، فنهض نبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى الحائط فقال لصاحبه : افتح ، فقال أمرهما عظيم ، فقال افتح ، فلما حرك الباب أقبلا ولهما جلبة أي صوت ورغاء فلما انفرج الباب ونظرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بركا ثم سجدا ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برءوسهما ثم دفعهما لصاحبهما وقال استعملهما وأحسن علفهما ، فقال القوم تسجد لك البهائم أفلا تأذن لنا في السجود ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ؟ } ورواه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنه عنهما ورواته ثقات .

وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال { كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يستنون عليه ، وإن الجمل استصعب عليهم فمنعهم ظهره ، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه استصعابه وقالوا : قد عطش الزرع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فقاموا ، فدخل الحائط ، والجمل في ناحيته ، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، فقالت الأنصار يا نبي الله إنه قد صار مثل الكلب وإنا نخاف عليك صولته ، فقال ليس علي منه بأس ، فلما نظر الجمل إلى رسول الله أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 331 ] بناصيته أذل ما كانت حتى أدخله في العمل ، فقال له أصحابه يا رسول الله هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك ، ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك قال لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها } . وأخرج أيضا نحوه من حديث جابر رضي الله عنه

. وقال الإمام الحافظ ابن رجب في كتابه الذل والانكسار للعزيز الجبار : السجود أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه عز وجل ، حيث جعل العبد أشرف ما له من الأعضاء وأعزها عليه وأعلاها حقيقة أوضع ما يمكنه فيضعه في التراب معفرا ، ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه وخشوعه ، ولذا كان جزاء العبد إذا فعل ذلك أن يقربه الله إليه ، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال تعالى { واسجد واقترب } وهو مما كان يأنف منه المشركون المتكبرون عن عبادة الله ، وكان بعضهم يقول : أكره أن أسجد فتعلوني استي . وإنما طرد الله إبليس لما استكبر عن السجود حين أمره الله به ، ولذا يبكي إذا سجد المؤمن ، ويقول أمر ابن آدم بالسجود ففعل فله الجنة ، وأمرت فعصيت فلي النار .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليلة في سجوده { أقول كما قال أخي داود عليه السلام أعفر وجهي في التراب لسيدي وحق لوجه سيدي أن تعفر الوجوه لوجهه } .

قال ومر عصام بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه ، فقال يا حاتم تحسن تصلي ؟ قال نعم قال : كيف تصلي ؟ قال حاتم أقوم بالأمر ، وأمشي بالخشية وأدخل بالنية ، وأكبر بالعظمة ، وأقرأ بالترسل والتفكر ، وأركع بالخشوع ، وأسجد بالتواضع ، وأجلس للتشهد بالتمام ، وأسلم بالسبيل والسنة ، وأسلمها إلى الله عز وجل ، وأرجع على نفسي بالخوف فأخاف أن لا تقبل مني ، وأحفظه بالجهد إلى الموت . فقال : تكلم فأنت تحسن تصلي . فالسجود من أعظم ما يظهر به التواضع والذل للمعبود وهو المقصود الأعظم من الصلاة فلهذا لا يحل إلا لله عز وجل فيحرم لأحد من الخلق .

التالي السابق


الخدمات العلمية