الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ حكم الطلاق حال الغضب ]

ومن هذا رفعه صلى الله عليه وسلم حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق ، وقال الإمام أحمد في رواية حنبل : هو الغضب ، وكذلك فسره أبو داود ، وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق أحد أئمة المالكية ومقدم فقهاء أهل العراق منهم ، وهي عنده من لغو اليمين أيضا ، فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق ، وحكاه شارح أحكام عبد الحق عنه ، وهو ابن بزيزة الأندلسي ، قال : وهذا قول علي وابن عباس وغيرهما من الصحابة إن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم ، وفي سنن الدارقطني بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس يرفعه : { لا يمين في غضب ولا عتاق فيما لا يملك } وهو وإن لم يثبت رفعه فهو قول ابن عباس ، وقد فسر الشافعي : { لا طلاق في إغلاق } بالغضب ، وفسره به مسروق ; فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل ، كلهم فسروا الإغلاق بالغضب ، وهو من أحسن التفسير ; لأن الغضبان قد أغلق عليه باب القصد بشدة غضبه ، وهو كالمكره ، بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره ; لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر القليل الذي هو دونه ، فهو قاصد حقيقة ، ومن هنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه ، وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون ، فإن الغضب غول العقل يغتاله كما يغتاله الخمر ، بل أشد ، وهو شعبة من الجنون ، ولا يشك فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه ; ولهذا قال حبر الأمة الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين : إنما الطلاق عن وطر ، ذكره البخاري في صحيحه ، أي عن غرض من المطلق في وقوعه ، وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه وإجابة الله دعاء رسوله له ، إذا الألفاظ إنما يترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها ، ولهذا لم يؤاخذنا الله باللغو في أيماننا ، ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة وجمهور السلف أنه قول الحالف : لا والله ، وبلى والله ، في عرض كلامه [ ص: 48 ] من غير عقد اليمين .

وكذلك لا يؤاخذ الله باللغو في أيمان الطلاق ، كقول الحالف في عرض كلامه : علي الطلاق لا أفعل ، والطلاق يلزمني لا أفعل ، من غير قصد لعقد اليمين ، بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو فيمين الطلاق أولى ألا ينعقد ولا يكون أعظم حرمة من الحلف بالله ، وهذا أحد القولين من مذهب أحمد ، وهو الصواب ، وتخريجه على نص أحمد صحيح ; فإنه نص على اعتبار الاستثناء في يمين الطلاق لأنها عنده يمين ، ونص على أن اللغو أن يقول : لا والله وبلى والله ، من غير قصد لعقد اليمين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم } وصح عنه أنه قال : { أفلح وأبيه إن صدق } ولا تعارض بينهما ، ولم يعقد النبي صلى الله عليه وسلم اليمين بغير الله قط ، وقد { قال حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أنتم إلا عبيد لأبي ، وكان نشوانا من الخمر ، فلم يكفره بذلك } ، وكذلك الصحابي الذي قرأ : ( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون ) وكان ذلك قبل تحريم الخمر ، ولم يعد بذلك كافرا ; لعدم القصد ، وجريان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه ، فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه ، فتجني عليه وعلى الشريعة ، وتنسب إليها ما هي بريئة منه ، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به ; ففقيه النفس يقول : ما أردت ، ونصف الفقيه يقول : ما قلت ; فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال ، وقد رفع الله المؤاخذة بهذا وهذا كما قال المؤمنون : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فقال ربهم تبارك وتعالى : قد فعلت .

التالي السابق


الخدمات العلمية