الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل

ومما يستثمر منه الأحكام تنبيه الخطاب .

وهو إما في الطلب كقوله تعالى : فلا تقل لهما أف ( الإسراء : 23 ) فنهيه عن القليل منبه على الكثير ، وقوله : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ( النساء : 2 ) يدل على تحريم الإحراق والإتلاف .

وإما في الخبر :

فإما ما أن يكون بالتنبيه بالقليل على الكثير كقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا ( الزلزلة : 7 ) [ ص: 144 ] فنبه على أن الرطل والقنطار لا يضيع لك عنده ، وكقوله : ما يملكون من قطمير ( فاطر : 13 ) ، ولا يظلمون نقيرا ( النساء : 124 ) ، ولا يظلمون فتيلا ( النساء : 49 ) ، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة ( يونس : 61 ) فإنه يدل على أن من لم يملك نقيرا أو قطميرا مع قلتهما ، فهو عن ملك ما فوقهما أولى . وعلم أن من لم يعزب عنه مثقال ذرة مع خفائه ودقته ، فهو بألا يذهب عنه الشيء الجليل الظاهر أولى .

وإما بالكثير على القليل ; كقوله تعالى : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ( آل عمران : 75 ) فهذا من التنبيه على أنه يؤدي إليك الدينار وما تحته ثم قال : ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ( آل عمران : 75 ) فهذا من الأول ; وهو التنبيه بالقليل على الكثير ; فدل بالتنبيه على أنك لا تأمنه بقنطار ، بعكس الأول .

ومثل قوله في فرش أهل الجنة : بطائنها من إستبرق ( الرحمن : 54 ) وقد علمنا أن أعلى ما عندنا هو الإستبرق الذي هو الخشن من الديباج ، فإذا كان بطائن [ فرش ] أهل الجنة ذلك ، فعلم أن وجوهها في العلو إلى غاية لا يعقل معناها .

وكذلك قوله في شراب أهل الجنة : ختامه مسك ( المطففين : 26 ) وإنما يرى من الكأس الختام ، وأعلى ما عندنا رائحة المسك ، وهو أدنى شراب أهل الجنة ; فليتبين اللبيب إذا كان الثفل الذي منه المسك ، أيش يكون حشو الكأس فيظهر فضل حشو الكأس بفضل الختام ، وهذا من التنبيه [ الخفي ] .

وقوله : الذي باركنا حوله ( الإسراء : 1 ) فنبه على حصول البركة فيه من باب أولى .

واعلم أن هذا النوع البديع ينظر إليه من ستر رقيق ، وطريق تحصيله فهم المعنى [ ص: 145 ] وتقييده من سياق الكلام كما في آية التأفيف ; فإنا نعلم أن الآية إنما سيقت لاحترام الوالدين وتوقيرهما ، ففهمنا منه تحريم الشتم والضرب ، ولو لم يفهم المعنى لا يلزم ذلك ; لأن الملك الكبير يتصور أن يقول لبعض عبيده : اقتل قرني ولا تقل له : أف ; ويكون قصده الأمن عن مزاحمته في الملك ; فثبت أن ذلك إنما جاء لفهم المعنى .

فإن قيل : فإذا ابتنى الفهم على تخيل المعنى كان بطريق القياس كما صار إليه الشافعي .

قيل : ما يتأخر من نظم الكلام وما يتقدم فهمه على اللفظ ويقترن به لا يكون قياسا حقيقيا ; لأن القياس ما يحتاج فيه إلى استنباط وتأمل ، فإن أطلق القائل بأنه قياس اسم القياس عليه وأراد ما ذكرناه فلا مضايقة في التسمية .

التالي السابق


الخدمات العلمية