تحويل القبلة

2 1567

ظل المسلمون طيلة العهد المكي يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس ؛ امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى ، الذي أمر باستقبالها ، وجعلها قبلة للصلاة ..وفي تلك الأثناء كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمتثل الحكم الإلهي وفي فؤاده أمنية كبيرة طالما ظلت تراوده ، وتتمثل في التوجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس ، ذلك لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وهو أولى الناس به ، وأول بيت وضع للناس للناس ، ولحرصه على أن تتميز الأمة الإسلامية في عبادتها عن غيرها من الأمم التي حرفت وبدلت ويدل على ذلك قول البراء بن عازب رضي الله عنه : " وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة " رواه البخاري .

وما كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم –  وهو العبد المأمور أن يخالف أمر ربه ، بيد أنه استطاع الجمع بين رغبته في التوجه إلى الكعبة وعدم مخالفة الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس بأن يصلي أمام الكعبة ولكن متجها إلى الشمال ، كما يدل عليه الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه حيث قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه " رواه أحمد .

ثم أذن الله بالهجرة ، ووصل المسلمون إلى المدينة ، وبنيت المساجد ، وشرع الأذان ، والنبي - صلى الله عليه وسلم -لم ينس حبه الأول للكعبة ، ويحزنه ألا يستطيع استقبال القبلتين جميعا كما كان يفعل في مكة ، وكان شأنه بين أن يخفض رأسه خضوعا لأمر ربه وأن يرفعه أملا في إجابة دعوته ، ويصف القرآن الكريم حال النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء }( البقرة : 144 ) .

وفي منتصف شعبان ، وبعد مرور ستة عشر شهرا من استقبال بيت المقدس ، نزل جبريل عليه السلام بالوحي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ليزف البشرى بالتوجه إلى جهة الكعبة ، قال تعالى : { فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره }( البقرة : 144 ) .

 ويحدث الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة نزل على أخواله من الأنصار ، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى - أول صلاة صلاها - صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت ، رواه البخاري .

وعلى الرغم من انتشار الخبر وذيوعه ، إلا أنه تأخر عن أهل قباء حتى صلاة الصبح ، فجاء إليهم رجل فقال : " أنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها "، فتوجهوا إلى الكعبة ، رواه البخاري .

ولأن نسخ الأحكام لم يكن معهودا عند المسلمين من قبل ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : "... فأول ما نسخ من القرآن القبلة " ، رواه النسائي ، لذلك كرر الله الأمر بها تأكيدا وتقريرا ثلاث مرات : الأولى في قوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره }( البقرة : 144 ) ، والثانية في قوله تعالى : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون } ( البقرة : 149 ) ، والثالثة في قوله تعالى : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم }( البقرة : 150 ) .

وقد تباينت ردود أفعل الناس تجاه هذا الحادث غير المألوف ، أما المؤمنين فلم يترددوا لحظة عن التحول طاعة لله ورسوله ، فامتدحهم الله تعالى ، وبين لهم أن هذه الحادثة إنما كانت اختبارا للناس وامتحانا لهم كما قال تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله }(  البقرة : 143 ) .

وأظهر بعض المسلمين القلق على من لم يكتب الله له شرف الصلاة إلى الكعبة ممن مات قبلهم ، وخافوا من حبوط أعمالهم ، وقالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ، ؟ فأنزل الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم }( البقرة : 143 )  - يعني صلاتكم - رواه الترمذي وأصله في الصحيح.

وأما اليهود فقد عابوا على المسلمين رجوعهم عن بيت المقدس إلى الكعبة ، وقابلوا ذلك بالسخرية والاستهجان ، واستغلوا ذلك الحدث بدهاء ليمرروا من خلاله الشكوك والتساؤلات طعنا في الشريعة وتعمية لحقائقها ، وقد حذر الله سبحانه وتعالى المسلمين وأخبرهم بموقف اليهود قبل وقوعه فقال : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }( البقرة : 142 ) .

وهكذا تحقق للمسلمين فضل التوجه إلى القبلتين جميعا ، واستطاعوا أن يجتازوا هذا الامتحان الإلهي ، وبذلك نالوا شهادة الله : {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }( البقرة : 143 ) ، وكان ذلك التحول إيذانا بنهاية الشرك وسقوط رايته ، وأصبحت الكعبة قبلة للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة