ليْسَ مِنَّا مَنْ لطمَ الخُدود، وشَقَّ الجُيوب

0 387

 لطم الخدود وشق الجيوب والنياحة عند المصيبة ـ وخاصة مصيبة الموت ـ حرام، وهو من فعل أهل الجاهلية قبل الإسلام، إذ فيه اعتراض على قضاء الله تعالى وقدره، وعدم الرضا به، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن يفعل ذلك. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) رواه البخاري.
(ضرب الخدود): خص الخد لكونه الغالب في ذلك عند المصيبة، وإلا فإن ضرب بقية الوجه داخل في ذلك. (شق الجيوب): جمع جيب، وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره عند المصيبة، وهذا من علامات السخط. (دعا بدعوى الجاهلية) أي: بدعوى أهل الجاهلية قبل الإسلام، وهي النياحة على الميت وما يتبعها بالتفجع والتسخط، والتعديد وذكر مناقب للميت بما فيه وبما ليس فيه..
قال ابن هبيرة في "الإفصاح": "في هذا الحديث صريح النهي عن أن يبلغ الحزن إلى ضرب الخدود وشق الجيوب، أو أن ينتهي إلى دعوى الجاهلية من كونهم كانوا يذكرون الكلام الباطل الذي نسخه الإسلام، وليس في هذا ما يمنع البكاء وظهور الرقة على الإنسان عند فقد حبيبه أو أخيه المسلم".
وقال ابن بطال: "قال المهلب: قوله: (ليس منا) أي: ليس متأسيا بسنتنا، ولا مقتديا بنا، ولا ممتثلا لطريقتنا التي نحن عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من غشنا) لأن لطم الخدود وشق الجيوب من أفعال الجاهلية".
وقال ابن حجر في "فتح الباري": "قوله: (ليس منا) أي: من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك، ولست مني. أي: ما أنت على طريقتي".
وقال ابن الجوزي: "قوله: (ليس منا) أي ليس على طريقتنا وسنتنا، وإنما نهى عما يدخل تحت الكسب من ضرب الخد وشق الجيب، ولم ينه عن البكاء والحزن. وأما دعوى الجاهلية فما كانوا يذكرونه عند موت الميت، تارة من تعظيمه ومدحه، وتارة من الندب عليه مثل قولهم: واجبلاه".
وقال القسطلاني: "والنفي في قوله: (ليس منا) للتغليظ، لأن المعصية لا تقتضي الخروج عن الدين إلا أن تكون كفرا، أو المعنى: ليس مقتديا بنا، ولا مستنا بسنتنا".
وقال القرطبي: "وقوله: (ليس منا) أي: ليس على طريقتنا، ولا سنتنا، كما قال: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب) و(من غشنا فليس منا)، وهو ذم بلا شك".
وفي "شرح الجامع الصغير": "المعنى: ليس على ديننا الكامل. وكان السبب في ذلك ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء".

فائدة:
لطم الخدود، وشق الجيوب، والنياحة على الميت تسخطا عند المصائب، وإن كان محرما وعده الكثير من العلماء من الكبائر، إلا أنه ليس كفرا مخرجا من الملة، فلا يستوجب ما يسمى: "رد الدين" أي: العودة إلى الإسلام، لأن فاعل هذا الذنب لم يخرج من الإسلام أصلا، وإنما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا) أي: ليس على هدينا وطريقتنا كما ذكر وشرح ذلك العلماء. والكثير من النصوص الصحيحة تفيد بظاهرها خروج المسلم من الإسلام لفعله بعض الكبائر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب) وغيره من أحاديث نبوية صحيحة: (من غشنا فليس منا).. وقد قرر علماء أهل السنة ـ من السلف والخلف ـ أنه لا يحكم على مسلم معين بالكفر لمجرد فعله ووقوعه في أمر محرم حتى تقام عليه الحجة، وأنه ليس كل من وقع في عمل من أعمال وأقوال الكفر وقع الكفر عليه، فالحكم على الفعل والقول بأنه كفر، لا يلزم منه كفر فاعله..
قال الإمام ابن بطة في "الابانة": وقد أجمعت العلماء - لا خلاف بينهم - أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء".
وقال البغوي "في شرح السنة": "اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر، إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئا منها، فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار، بل هو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته".
وقال ابن تيمية: "وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}(النساء:10)، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع". وقال أيضا ـ ابن تيمية ـ: "ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن يثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".. وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ليس منا من لطم الخدود..) أنه ليس من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس متأسيا بسنتنا، ولا مقتديا بنا، ولا ممتثلا لطريقتنا التي نحن عليها: من جزع وسخط على قدر الله في أفعاله، فلطم الخدود، وشق الثياب وناح على الميت جزعا وتسخطا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية.. ومن وقع في ذلك فقد وقع في أمر محرم عده الكثير من العلماء من الكبائر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من فاعله، وقد ذكر الذهبي فعل ذلك في كتابه "الكبائر"، ومع ذلك فإنه (لطم الخدود..) ليس مخرجا من الدين، لكنه يستلزم توبة صادقة من فاعله، وصبره ورضاه بقضاء الله عز وجل وقدره..

لقد نسخ الله عز وجل أمور الجاهلية كلها بشريعة الإسلام، وحض على الصبر والرضا عند المصائب، وتفويض الأمور كلها إليه سبحانه، فعنده عظيم الأجر والثواب لمن صبر ورضي بقضاء الله تعالى وقدره، قال الله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}(الزمر:10). قال السعدي: "وهذا عام في جميع أنواع الصبر، الصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها، والصبر على طاعته حتى يؤديها، فوعد الله الصابرين أجرهم بغير حساب، أي: بغير حد ولا عد ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند الله، وأنه معين على كل الأمور".. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر) رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها) رواه البخاري.. والقول والذكر الذي يستحب عند المصيبة بصفة خاصة هو الاسترجاع وهو قول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فقد جعله الله تعالى ملجأ لأهل المصائب وعصمة لهم لما اشتمل عليه من التوحيد، والإقرار بالعبودية لله تعالى، والإيمان بالبعث بعد الموت. قال القرطبي: "جعل الله تعالى هذه الكلمات (إنا لله وإنا إليه راجعون) ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين، لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله: إنا لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله: وإنا إليه راجعون إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له". وشتان ما بين قول وفعل أهل الجاهلية وبين قول وفعل أهل الإسلام.. فينبغي للمؤمن مع الصبر أن يحتسب لينال الأجر الكبير والثواب العظيم من الله عز وجل، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب رضي الله عنها، لما توفي ابنها أرسل إليها رسولا وقال له: (مرها فلتصبر ولتحتسب) رواه البخاري. قال الشيخ الغنيمان في "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري": "قوله: (فلتصبر، ولتحتسب) الصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس الجوارح عما نهى عنه الشرع من شق الثياب، وخمش الوجوه ولطمها، والكلام الذي ينافي التسليم لرب العالمين، وما أشبه ذلك مما يدل على تسخط الأقدار، والاعتراض على القضاء الذي قضاه الله قبل وجود الخلق. والاحتساب: هو نية طلب الثواب من الله على الإيمان بالقدر، والتسليم لأمر الله -تعالى-، والإيمان بوعد الله تعالى، فإنه وعد على الصبر الجزاء". وقال الشيخ ابن عثيمين: "(مرها فلتصبر) يعني على هذه المصيبة (ولتحتسب) أجرها على الله عز وجل". 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة