رَحْمة وعِناية النبي صلى الله عليه وسلم ببناته

0 286

الأبناء ـ من الأولاد والبنات والذرية ـ هم قرة عين الآباء والأمهات، ولهذا ذكر الله تعالى في دعاء عباد الرحمن: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما}(الفرقان:74) قال البغوي: "يعني أولادا أبرارا أتقياء، ويقولون: اجعلهم صالحين فتقر أعيننا بذلك". والبنات على وجه خاص نعمة من نعم الله عز وجل علينا، متى ما قمنا بما افترضه الله علينا من الإحسان إليهن.. وقد أجمع العلماء على أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان له أربع بنات من زوجته خديجة رضي الله عنها، وهن: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. والسيرة النبوية مليئة بمواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع بناته، التي يظهر منها مدى حبه ورحمته، ورعايته وعنايته بهن، ومن ذلك:

1 ـ السرور عند ولادتهن:
من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسر ويفرح لمولد بناته، فقد سر واستبشر لمولد ابنته فاطمة رضي الله عنها ـ كحاله مع بقية أبنائه ـ، وتوسم فيها البركة واليمن، فسماها فاطمة، رغم أنها كانت البنت الرابعة له صلى الله عليه وسلم، وفي هذا توجيه منه صلى الله عليه وسلم بأن من رزق البنات وإن كثر عددهن، عليه أن يظهر الفرح والسرور بهن، ويشكر الله سبحانه على ما وهبه منهن، وأن يحسن تربيتهن، حتى يظفر بالأجر الجزيل من الله عز وجل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنته فاطمة: (فاطمة بضعة (قطعة) مني، فمن أغضبها أغضبني) رواه البخاري.
2 ـ تقبيلهن والترحيب بهن عند رؤيتهن:
من مظاهر حبه ورحمته صلى الله عليه وسلم ببناته الترحيب بهن وتقبيلهن عند رؤيتهن. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا (السمت والهدي كلها ذات معان متقاربة تدل على الهيئة والطريقة، وقيل المراد بالدل: حسن الشمائل والوقار) برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه (مكانه). وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها (مكانها)) رواه أبو داود.
3 ـ تزويجهن من الصالحين:
ومن صور عنايته صلى الله عليه وسلم ببناته تزويجهن لمن رأى فيهم الدين وحسن الخلق ورجاحة العقل، فزوج زينب رضي الله عنها من أبي العاص بن الربيع رضي الله عنه، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد، وكان قبل إسلامه من رجال مكة المعدودين أمانة ومالا وتجارة، وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم عليه فقال عنه: (حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي) .. وزوج صلى الله عليه وسلم ابنته رقية من عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما توفيت رقية زوجه صلى الله عليه وسلم بأختها أم كلثوم، وعثمان رضي الله عنه الزاهد الجواد الكريم الحيي، الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) رواه مسلم. وزوج فاطمة رضي الله عنها من ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الصبيان، وقد تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك فضلا وشرفا.
4 ـ زيارتهن والسؤال عنهن:
كان صلى الله عليه وسلم يزور بناته بعد زواجهن ويدخل عليهن الفرح والسرور، وكان من هديه مع بناته بعد زواجهن زيارتهن والسؤال عنهن، والتدخل للإصلاح بينهن وبين أزواجهن ـ إن وجدت مشكلة وعلم بها، بشكل يضمن إعادة الصفاء إلى جو الأسرة إن كانت المصلحة في ذلك ـ.. فقد زار فاطمة رضي الله عنها بعد زواجها ودعا لها ولزوجها بأن يعيذهما الله وذريتهما من الشيطان الرجيم.. ولما شكت إليه فاطمة رضي الله عنها ما تلقى من أثر الرحى والتعب في خدمة البيت، علمها صلى الله عليه وسلم أن تكبر أربعا وثلاثين، وتسبح ثلاثا وثلاثين، وتحمد ثلاثا وثلاثين، وقال لها: (فهو خير لكما من خادم) رواه البخاري. وعن سهل بن سعد قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني فخرج، فلم يقل (ينم وسط النهار) عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو، فجاء فقال يا رسول الله هو فى المسجد راقد. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، فأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه وهو يقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب) رواه البخاري. قال ابن بطال في شرحه لهذا الحديث: " وفيه: ممازحه الصهر وتكنيته بغير كنيته، وبشيء عرض له، كما كنى أبا هريرة، كذلك كنى عليا بالتراب الذى احتبس إليه، وفيه: جواز الممازحة لأهل الفضل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا، وفيه: الرفق بالأصهار وإلطافهم، وترك معاتبتهم على ما يكون منهم لأهلهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاتب عليا على مغاضبته لأهله، بل قال له: (قم) وعرض له بالانصراف إلى أهله".
5 ـ عنايته بهن عند مرضهن:
لم يكن يشغله صلى الله عليه وسلم عن بناته رضي الله عنهن شاغل، بل كان يهتم بهن ويسأل عنهن وهو في أصعب الظروف، فعندما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج لغزوة بدر لملاقاة قريش، كانت رقية رضي الله عنها مريضة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يبقى في المدينة ليمرضها ويهتم بها، وضرب له بسهمه في مغانم بدر، فقد روى البخاري في صحيحه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أخبر عن سبب تغيب عثمان بن عفان رضي الله عنه في غزوة بدر فقال: (..وأما تغيبه عن بدر، فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه). وفي ذلك منزلة عالية لرقية رضي الله عنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، واهتمام كبير بها، إذ أنه صلوات الله وسلامه عليه أذن لزوجها عثمان رضي الله عنه في أن يتخلف عن غزوة بدر ـ التي هي أول معركة فاصلة بين جيش الإيمان وجيش الكفر ـ لتمريضها، وضرب له بسهمه في الغنيمة كمن حضر الغزوة، إكراما لها وتعظيما لشأنها رضي الله عنها.
6 ـ مشاركته في مناسباتهن، وحب أولادهن والاهتمام بهم:
شارك النبي صلى الله عليه وسلم بناته في مناسباتهن، وكان يلاعب ويلاطف أولادهن، ومن ذلك مشاركته في عقيقة الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأخذهما معه إلى المسجد، وحمله أمامة ابنة ابنته زينب رضي الله عنها وهو يصلي. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا) رواه أبو داود. وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في إحدى صلاتي العشي، الظهر أو العصر، وهو حامل الحسن أو الحسين، فتقدم النبي صلى الله عليه و سلم فوضعه ثم كبر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها، قال: إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلاة، قال الناس يا رسول الله: إنك سجدت بين ظهري الصلاة سجدة أطلتها، حتى ظننا انه قد حدث أمر أوانه يوحى إليك، قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني (ركب على ظهري) فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) رواه الحاكم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يرحم لا يرحم) رواه البخاري. وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها) رواه البخاري.
7 ـ الحزن عند وفاة إحداهن:
من مظاهر حبه ورحمته صلى الله عليه وسلم لبناته أنه كان يحزن حزنا شديدا على وفاة إحداهن، وتذرف عيناه الدمع على فراقها، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه في نبأ وفاة أم كلثوم رضي الله عنها: (شهدنا بنتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، فقال: فرأيت عينيه تدمعان) رواه البخاري. بل وتستمر عناية النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته ببناته حتى بعد وفاتهن، ويتمثل ذلك في الاهتمام بغسلهن وشهود جنازتهن ودفنهن. عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا، أو شيئا من كافور، وابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه (إزاره) فقال: أشعرنها (الشعار هو الثوب الذي يلي الجسد) إياه) رواه مسلم.

رفع النبي صلى الله عليه وسلم قيمة ومنزلة البنات، وجعل لمن رزقه الله عز وجل ذرية من البنات من الفضائل والمنح، ما تمتد نحوها الأعناق، وتهفو إليها القلوب.. فيا عائلا للبنات، أبشر بحجاب من النار، وأبشر بالجنة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم فهو القائل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: (من عال ابنتين، أو ثلاثا، أو أختين، أو ثلاثا (أي: أنفق عليهن ومؤنتهن وقام بتربيتهن)، حتى يبن (ينفصلن عنه بتزويج أو موت) أو يموت عنهن، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين - وأشار بأصبعه الوسطى والتي تليها ـ) رواه مسلم. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له ثلاث بنات يؤدبهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت له الجنة ألبتة، قيل يا رسول الله: فإن كانتا اثنتين؟ قال: وإن كانتا اثنتين، قال: فرأى بعض القوم أن لو قال: واحدة، لقال: واحدة) رواه أحمد. فمن رزقه الله تعالى البنات فليحمده سبحانه ويشكره أن يسر له طريقا إلى الجنة، وجعل بينه وبين النار سترا وحجابا.. والناظر والمتأمل في سيرة وحياة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه أعطى بناته جانبا كبيرا من حبه وعنايته ورعايته، فكان معهن أبا حنونا، ومربيا حكيما، يداعب ويلاعب، وينصح ويربي، ليكون قدوة للمؤمنين في كل زمان ومكان، فيما ينبغي عليهم تجاه بناتهم، من حسن تربية، وحب وعناية، وشفقة ورحمة، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(الأحزاب:21). قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله، وأفعاله، وأحواله".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة