فضل الشهادة ومراتب الشهداء

0 0

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(آل عمران:102)، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
أيها المسلمون:

الشهادة في سبيل الله ليست مجرد نهاية لحياة فانية، بل هي بداية لحياة باقية أبدية في جنات النعيم عند الله تعالى، حياة لا شقاء فيها ولا ألم، حياة يرزق الله فيها أصحابها نعيما لا يشبه نعيم الدنيا، ففي الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..
وحديثنا اليوم نتحدث عن "الشهادة في سبيل الله" تلك المنزلة التي ترفع صاحبها إلى درجات عظيمة عند الله، فالشهادة ليست مجرد موت في معركة، بل هي فوز عظيم لمن اصطفاهم الله من عباده الصالحين، قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}(آل عمران:169)، فالشهداء أحياء عند ربهم في دار كرامته، يرزقون من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه، إلا من أنعم به عليهم، وإن كانت هذه الآيات نزلت في سبب خاص مثل غزوة بدر وغيرها، إلا أن الاعتبار بعموم اللفظ والفضل للشهداء عامة في كل زمان ومكان، لا بخصوص سبب نزول الآيات. قال ابن القيم: "الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم".

والشهيد ـ عباد الله ـ على ثلاثة أقسام: الأول: شهيد الدنيا والآخرة، والثاني: شهيد الدنيا، والثالث: شهيد الآخرة.
أما الأول وهو شهيد الدنيا والآخرة: فهو من مات من المسلمين في قتال الكفار، مقبلا غير مدبر، لتكون كلمة الله هي العليا، مخلصا لله تعالى، لا يريد غرضا من أغراض الدنيا، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله) رواه مسلم.
والأحاديث النبوية الدالة على عظم أجر وعلو منزلة هذا النوع من الشهداء كثيرة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه) رواه الترمذي.
وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) رواه النسائي.
وشهيد الدنيا والآخرة الذي قتل مجاهدا في سبيل الله: لا يجد ألم القتل، إلا كما يجد أحدنا مس القرصة، أي أن الله تعالى يهون عليه الموت وشدته، ويكفيه سكراته وكربه، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يجد الشهيد من مس القتل، إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) رواه الترمذي.
وهذا الشهيد يغفر الله له ذنوبه كلها، قال صلى الله عليه وسلم: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) رواه مسلم. فالشهادة تكفر الذنوب المتعلقة بحق الله، ولكن الحقوق التي تتعلق بالعباد كالديون، فلا تغفر إلا بتسوية الحق مع صاحبه، سواء بتسديده أو استحلاله، أو القصاص يوم القيامة، وقد يمن الله على الشهيد أو غيره ممن عليه حقوق للخلق فيرضيهم عنه بما يشاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد ساق بشرى لمن استدان أموال الناس وهو ينوي أداءها، فقال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
أما النوع الثاني من الشهداء، فهو "شهيد الدنيا"، وهو من قتل في قتال مع الكفار، لكن كان قتاله رياء أو عصبية أو لغرض من أغراض الدنيا، ولم يكن خالصا لله، فهذا النوع من الشهداء يعامل في الدنيا معاملة الشهيد، فلا يغسل ولا يصلى عليه، فنحن نعامل الناس بحسب الظاهر في الدنيا، والله هو الذي يعلم السرائر والنوايا، وهو الذي يتولى حسابهم يوم القيامة على حسب أعمالهم ونياتهم..

وأما النوع الثالث من الشهداء فهو: "شهيد الآخرة".
ومن فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أمته، أن الله نوع لهم أسباب الشهادة، فقد ورد في السنة النبوية العديد من الأحاديث الصحيحة التي تذكر أصنافا متعددة من "شهداء الآخرة"، الذين نالوا أجر الشهادة رغم أنهم لم يقتلوا في ساحة المعركة، ويعاملون في الآخرة معاملة الشهداء من حيث الأجر والمقام العالي عند الله.
ومن هؤلاء الشهداء: من مات بالطاعون، ومن مات مريضا بداء ومرض في البطن، ومن مات غريقا، ومن مات بسبب سقوط شيء عليه كأن يصاب في حادث هدم، قال صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون وهو (الذي مات بالطاعون وقيل: كل وباء طاعون)، والمبطون وهو (من أصيب وابتلي بمرض وداء من أمراض البطن)، والغريق، وصاحب الهدم أي (من مات تحت الهدم)، والشهيد في سبيل الله (وهو من من مات بسبب غير القتل) ) رواه البخاري
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأنواع الخمسة من الشهداء ليست حصرا، فهناك أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت أنواعا أخرى من شهداء الآخرة مثل: من مات محروقا، أو المرأة التي تموت وهي حامل، أو التي تموت أثناء فترة النفاس بعد الولادة، قال صلى الله عليه وسلم: (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب (المريض بذات الجنب وهو التهاب الرئة) شهيد، والمبطون شهيد (الميت بمرض في بطنه)، والحرق (الذي يموت محروقا) شهيد، والذي يموت تحت الهدم (لذي وقع عليه الهدم فمات منه) شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد (المراد بها الحامل) ) رواه أبو داود. وفي رواية أخرى وردت إضافة موت المرأة في النفاس بعد الولادة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (والنفساء شهادة).

وكذلك من "شهداء الآخرة"، من مات بمرض السل أو أي مرض مشابه له، مثل مرض "ذات الجنب"، وهو الالتهاب الشديد في الرئة الذي قد يؤدي إلى الوفاة، أو المرض السرطاني أو ما شابه، كل هؤلاء يعدون من شهداء الآخرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (والسل شهادة) رواه ابن ماجه.
وإضافة إلى ذلك،  من مات دفاعا عن ماله أو أهله أو دينه أو عرضه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) رواه أحمد.
وهكذا نرى أن مفهوم "شهداء الآخرة" يشمل العديد من الصور المتنوعة التي تنعكس في مختلف حالات الموت التي يتعرض لها المسلم، سواء كانت بسبب مرض أو حادث أو دفاع عن النفس والعرض، فكل تلك الأشكال تمثل طرقا مختلفة خص الله بها عباده الذين ابتلاهم بذلك ليكفر عنهم ذنوبهم ويرفع درجاتهم في الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:

شهيد الدنيا والآخرة هو المسلم الذي يقتل في قتال الكفار لتكون كلمة الله هي العليا، وله من الأجر والرفعة ما لا يبلغه غيره، وأما شهيد الآخرة فهو من نال اسم الشهادة وفضلها من غير قتال، كمن مات بالطاعون والأوبئة، أو بالغرق، أو الهدم، أو الحريق، أو بأمراض شديدة كمرض البطن والسل، وكذلك من مات مدافعا عن دينه، أو نفسه، أو عرضه، أو ماله، وتلحق بهم المرأة التي تموت حاملا أو في نفاسها.
ومن فضل الله على هذه الأمة أن كتب لمن مات بهذه الميتات أجرا عظيما، وإن كانت درجات ومراتب الشهداء متفاوتة، فأعلاها الشهادة في المعركة، أما شهداء الآخرة ـ مع عظيم فضلهم ـ فلا يساوون شهيد المعركة في المنزلة، وقد قال الإمام النووي: "قال العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها".

وختاما عباد الله، فإن منزلة الشهيد عند ربه عظيمة، فهو في أرفع درجات الشرف والمقام، وقد وعده الله بأجر لا يعدله أجر، وكرامة لا يساويها نعيم، ولعظيم ما يناله الشهيد من فضل الله وواسع عطائه، فإنه يتمنى لو عاد إلى الدنيا ليقتل مرة بعد مرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة) رواه البخاري.
وأنتم يا من ابتليتم بمرض شديد في أنفسكم أو في أحبتكم، فصبرتم ورضيتم بقضاء الله، فلكم من الأجر والفضل ما يجبر القلوب جزاء لصبركم ورضاكم، فكما جزي شهيد الدنيا والآخرة بأعلى وأعظم الأجر، فإنكم تجدون في صبركم ورضاكم واحتسابكم أجرا عظيما من الله، وقد قال وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من يقتله بطنه، فلن يعذب في قبره) رواه النسائي.
وتذكروا عظيم منزلتهم وكبير أجرهم، فإن الله تعالى قد أكرمهم ورفعهم، وعوضهم بما هو خير لهم وأعظم، فاصبروا وارضوا بقضاء الله وقدره، ولكم في ذلك الأجر الجزيل والثواب العظيم..

هذا وصلوا وسلموا على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}(الأحزاب:56).
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة