بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما الذي يرجع إلى المؤدى إليه فأنواع : منها أن يكون فقيرا فلا يجوز صرف الزكاة إلى الغني إلا أن يكون عاملا عليها لقوله تعالى { : إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل } جعل الله تعالى الصدقات للأصناف المذكورين بحرف اللام وأنه للاختصاص فيقتضي اختصاصهم باستحقاقها فلو جاز صرفها إلى غيرهم لبطل الاختصاص وهذا لا يجوز والآية خرجت لبيان مواضع الصدقات ومصارفها ومستحقيها وهم وإن اختلفت أساميهم فسبب الاستحقاق في الكل واحد وهو الحاجة إلا العاملين عليها فإنهم مع غناهم يستحقون العمالة ; لأن السبب في حقهم العمالة لما نذكر ثم لا بد من بيان معاني هذه الأسماء .

أما الفقراء والمساكين فلا خلاف في أن كل واحد منهما جنس على حدة وهو الصحيح لما نذكر ، واختلف أهل التأويل واللغة في معنى الفقير والمسكين وفي أن أيهما أشد حاجة وأسوأ حالا قال الحسن : الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل وهكذا ذكره الزهري .

وكذا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة وهو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهذا يدل على أن المسكين أحوج وقال قتادة : الفقير الذي به زمانة وله حاجة والمسكين المحتاج الذي لا زمانة به ، وهذا يدل على أن الفقير أحوج وقيل : الفقير الذي يملك شيئا يقوته والمسكين الذي لا شيء له سمي مسكينا لما أسكنته حاجته عن التحرك فلا يقدر يبرح عن مكانه ، وهذا أشبه الأقاويل .

قال الله تعالى : { أو مسكينا ذا متربة } قيل في التفسير : أي استتر بالتراب وحفر الأرض إلى عانته وقال الشاعر :

أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

سماه فقيرا مع أن له حلوبة هي وفق العيال والأصل أن الفقير والمسكين كل واحد منهما اسم ينبئ عن الحاجة إلا أن حاجة المسكين أشد وعلى هذا يخرج قول من يقول : الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل ; لأن من شأن الفقير المسلم أنه يتحمل ما كانت له حيلة ويتعفف ولا يخرج فيسأل وله حيلة فسؤاله يدل على شدة حاله .

وما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : ليس المسكين الطواف الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان قيل : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يجد ما يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه [ ص: 44 ] ولا يقوم فيسأل الناس } فهو محمول على أن الذي يسأل وإن كان عندكم مسكينا فإن الذي لا يسأل ولا يفطن به أشد مسكنة من هذا وعلى هذا يحمل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ليس المسكين الذي لا مال له ولكن المسكين الذي لا مكسب له أي : الذي لا مال له وإن كان مسكينا فالذي لا مال له ولا مكسب له أشد مسكنة منه وكأنه قال : الذي لا مال له ولا مكسب فهو فقير ، والمسكين الذي لا مال له ولا مكسب .

وما قاله بعض مشايخنا : أن الفقراء والمساكين جنس واحد في الزكاة بلا خلاف بين أصحابنا بدليل جواز صرفها إلى جنس واحد وإنما الخلاف بعد في كونهما جنسا واحدا أو جنسين في الوصايا اختلاف بين أصحابنا غير سديد بل لا خلاف بين أصحابنا في أنهما جنسان مختلفان فيهما جميعا لما ذكرنا والدليل عليه أن الله تعالى عطف البعض على البعض ، والعطف دليل المغايرة في الأصل وإنما جاز صرف الزكاة إلى صنف واحد لمعنى آخر وذلك المعنى لا يوجد في الوصية وهو دفع الحاجة وذا يحصل بالصرف إلى صنف واحد والوصية ما شرعت لدفع حاجة الموصى له فإنها تجوز للفقير والغني ، وقد يكون للموصي أغراض كثيرة لا يوقف عليها فلا يمكن تعليل نص كلامه فتجري على ظاهر لفظه من غير اعتبار المعنى بخلاف الزكاة فإنا عقلنا المعنى فيها وهو دفع الحاجة وإزالة المسكنة وجميع الأصناف في هذا المعنى جنس واحد لذلك افترقا لا لما قالوه والله أعلم .

وأما العاملون عليها فهم الذين نصبهم الإمام لجباية الصدقات .

واختلف فيما يعطون قال أصحابنا : يعطيهم الإمام كفايتهم منها ، وقال الشافعي : يعطيهم الثمن .

وجه قوله أن الله تعالى قسم الصدقات على الأصناف الثمانية منهم العاملون عليها فكان لهم منها الثمن ، ولنا أن ما يستحقه العامل إنما يستحقه بطريق العمالة لا بطريق الزكاة بدليل أنه يعطى وإن كان غنيا بالإجماع ، ولو كان ذلك صدقة لما حلت للغني ، وبدليل أنه لو حمل زكاته بنفسه إلى الإمام لا يستحق العامل منها شيئا ولهذا قال أصحابنا : إن حق العامل فيما في يده من الصدقات حتى لو هلك ما في يده سقط حقه كنفقة المضارب أنها تكون في مال المضاربة حتى لو هلك مال المضاربة سقطت نفقته كذا هذا دل أنه إنما يستحق بعمله لكن على سبيل الكفاية له ولأعوانه لا على سبيل الأجرة ; لأن الأجرة مجهولة أما عندنا فظاهر ; لأن قدر الكفاية له ولأعوانه غير معلوم .

وكذا عنده ; لأن قدر ما يجتمع من الصدقات بجبايته مجهول فكان ثمنه مجهولا لا محالة ، وجهالة أحد البدلين يمنع جواز الإجارة فجهالة البدلين جميعا أولى ، فدل أن الاستحقاق ليس على سبيل الأجرة بل على طريق الكفاية له ولأعوانه لاشتغاله بالعمل لأصحاب المواشي فكانت كفايته في مالهم .

وأما قوله : إن الله تعالى قسم الصدقات على الأصناف المذكورين في الآية فممنوع أنه قسم بل بين فيها مواضع الصدقات ومصارفها لما نذكر ، ولو كان العامل هاشميا لا يحل له عندنا ، وعند الشافعي يحل واحتج بما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضي الله عنه إلى اليمن مصدقا وفرض له } ولو لم يحل للهاشمي لما فرض له ، ولأن العمالة أجرة العمل بدليل أنها تحل للغني فيستوي فيها الهاشمي وغيره .

ولنا ما روي { أن نوفل بن الحارث بعث ابنيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم : لا تحل لكم الصدقة ولا غسالة الناس } ; ولأن المال المجبى صدقة ولما حصل في يد الإمام حصلت الصدقة مؤداة حتى لو هلك المال في يده تسقط الزكاة عن صاحبها وإذا حصلت صدقة والصدقة مطهرة لصاحبها فتمكن الخبث في المال فلا يباح للهاشمي لشرفه صيانة له عن تناول الخبث تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو نقول للعمالة شبهة الصدقة وإنها من أوساخ الناس فيجب صيانة الهاشمي عن ذلك كرامة له وتعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى لا يوجد في الغني وقد فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية والغنى لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن السبيل أنه يباح له وإن كان غنيا ملكا فكذا هذا ، وقوله إن الذي يعطي للعامل أجرة عمله ممنوع وقد بينا فساده .

وأما حديث علي رضي الله عنه فلا حجة فيه ; لأن فيه أنه فرض له وليس فيه بيان المفروض أنه من الصدقات أو من غيرها فيحتمل أنه فرض له من بيت المال ; لأنه كان قاضيا والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية