الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قبس من أخلاق النبي ـ الشجاعة ـ

قبس من أخلاق النبي ـ الشجاعة ـ

قبس من أخلاق النبي ـ الشجاعة ـ

كان رسول الله ـ صلى عليه وسلم ـ أحسن الناس سمتاً وعشرة، وأكملهم أدبا وخُلُقاً، وقد وصفه الله سبحانه بذلك فقال : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم:4) ، فما من خصلة من خصال الخير إلا ولرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوفر الحظ والنصيب من التخلق بها ، شهد له بذلك القاصي والداني ، والعدو والصديق ، ومن ثم كانت مكارم الأخلاق سمة بارزة في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعله وسيرته .

وقد سئلت أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن أخلاق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: ( كان خلقه القرآن )(أحمد) ، وتريد بذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في مسلكه الخُلُقي محققاً لأدب القرآن في كل ما أحبه الله من الصفات الطيبة والأخلاق العظيمة ..

ومِن ذلك أن الله تعالى أمر بالوفاء بالعهد فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوفى الناس بعهده ، وأمر بالتواضع فكان أكرم الخلق تواضعاً، وأمر بالعبادة فكان أكثر العباد إقبالاً على العبادة ، وحث على الشجاعة فكان أشجع البشر ، وحبب للمؤمنين الصفح والعفو فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعفى الخلق وأصفحهم ، وحض على الرحمة والبر فلا يُعرف من يدانيه رحمة وبراً..
وهكذا كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يترجم بفعله أكرم الأخلاق التي رغب الله فيها عباده الصالحين ، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )(أحمد) .
فتثبيت الفضائل الخلقية وغرسها في البشرية كان بمثابة الهدف الأعلى لرسالته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ..

الشجاعة المحمدية :

الشجاعة خلق فاضل ووصف كريم ، لا سيما إذا كانت في العقل والقلب ، وفي الناحيتين المعنوية والحسية على السواء ، وصاحبها من أهل الإيمان والعلم ، وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلاً أعلى في الشجاعة كلها .
وقد تجلت شجاعته المعنوية في وقوفه بدعوته الربانية في وجه الكفر وأهله ، إذ كان العالم حين بُعِث ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد انصرف عن طريق الله ، وغرق في بحر من المعاصي والآثام والشرك ، فثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على دعوته يحتمل في سبيلها أشد ألوان الأذى والبلاء .. وقد حاولت قريش معه مختلف الوسائل من الاضطهاد والإيذاء ، والإغراء بالمال والنساء ، والزعامة والملك ، فلم يزدد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا ثباتاً على دينه ، وتصميماً على إبلاغ دعوته ، حتى كتب الله له الفلاح والنصر ، وأظهر دينه على الدين كله ..

أما شجاعته الحسية فعجب من العجب ، يشهد له بها أهل البطولة ، إذ كان من الشجاعة والقوة بالمكان الذي لا يجهل ، حضر المواقف والمعارك الصعبة ، وفر عنه الأبطال والشجعان ، وهو ثابت لا يتزحزح ، ومُقْبِل لا يدبر، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال علي ـ رضي الله عنه ـ : ( كنا إذا حمي البأس ، واحْمرَّت الحَدَق ، اتقينا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه )(أحمد) .

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ليلة ، فخرجوا نحو الصوت ، فاستقبلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبى طلحة عُرْي (مجرد من السرج) ، وفي عنقه السيف ، وهو يقول : لم تراعوا ، لم تراعوا .. )(البخاري).. لم تراعوا، لم تراعوا: أي لا تخافوا ولا تفزعوا .. وفي ذلك بيان لشجاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حيث خرج قبل الناس وحده لمعرفة الأمر ليطمئنهم ..

والأمثلة التطبيقية العملية من حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تدلل على شجاعته وثباته كثيرة فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقدم أصحابه في الجهاد في سبيل الله ، وقد شج وجهه ، وكُسِرَت رَبَاعِيَتُه - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد .

وفي يوم حنين ثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجه الآلاف من هوازن ، بعد أن تفرق عنه الناس خوفا واضطراباًً من الكمين المفاجئ الذي تعرضوا له .
ويصف البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ الموقف فيقول لرجل سأله : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ ، فقال : ( أشهد على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما ولَّى ، ولكنه انطلق أخِفَّاء من الناس وحُسَّر(من لا سلاح معهم) إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة ، فرموهم برشق من نبل كأنها رِجْل(قطيع) من جراد فانكشفوا ، فأقبل القوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول : أنا النبي لا كذب . أنا ابن عبد المطلب . اللهم نزِّل نصرك .. قال البراء : كنا والله إذا احمر البأس(الحرب) نتقى به، وإن الشجاع منا للذي يحاذى به . يعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - )(البخاري).

قال ابن كثير في تفسيره بعد سياق هذا الحديث : " .. وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة ، أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى ، وقد انكشف عنه جيشه ، وهو مع هذا على بغلة ، وليست سريعة الجري ، ولا تصلح لفر ولا كر ولا هرب ، وهو مع هذا يركضها على وجوههم وينوه باسمه ، ليعرف من لم يعرفه - صلى الله عليه وسلم - دائما إلى يوم الدين ، وما هذا كله إلا ثقة بالله ، وتوكلا عليه ، وعلما منه بأنه سينصره ، ويتم ما أرسله له ، ويظهر دينه على سائر الأديان " ..

وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال : ( غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غَزَاة قِبَلَ نَجْد، فأَدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القائلة في واد كثير العِضَاهِ (شجر فيه شوك) ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فَعلّق سيفه بِغُصْن مِن أغصانها ، وتفرّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر .. قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي ، والسيف صَلْتا(مسلولا) في يده ، فقال: مَن يَمْنَعُكَ مني؟ ، قلت : الله ، فشامَ السيف(َرده في غِمْده)، فها هو ذا جالِس ، ثم لم يعرِض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )(مسلم) .
قال ابن حجر في فتح الباري : " وفي الحديث فرط شجاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوة يقينه ، وصبره على الأذى ، وحلمه عن الجهال " .

لقد كانت مواقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخلاقه مضرب المثل والقدوة ، فهو شجاع في موطن الشجاعة ، قوي في موطن القوة ، عفو في موطن العفو ، رحيم رفيق في موطن الرحمة والرفق ، فصلوات الله وسلامه عليه ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة