الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مقدمة في تدوين السيرة النبوية

مقدمة في تدوين السيرة النبوية

مقدمة في تدوين السيرة النبوية

لم تُعْنَ أمةٌ من الأممِ في القديمِ والحديثِ بآثار نبيِّها وحياته ، وكل ما يتصل به مثل ما عنيت الأمة الإسلاميةُ بسيرة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والتي كانِ من آثارها هذه الثروة من الكتب المؤلفة في مولده وسيرته ، وحياته وشمائله ، وفضائله وخصوصياته ، ومعجزاته وأخلاقه وآدابه ، وأزواجه ونسبه ، وخدمه ومرضعاته وحاضناته .. بل بلغت العناية بالعلماء وكُتَّاب السيرة أن كتبوا عن وصف نعاله ومطهرته .. إلى غير ذلك ، مما يدل على غاية الحب والعناية بآثاره ، والدقة في تدوين كل شىء عن حياته وسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

لقد فرضت سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسها على المسلمين للعناية والاهتمام بها ، عن طريق حفظهـا وروايتها ، ومن ثم نشرها بين الناس ، وذلك لأهمية حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرتـه ، فأقواله وأفعاله المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ـ بعد القرآن الكريم ـ ، إضافة إلى أن سيرة ـ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ تفسر الكثير من الآيات القرآنية وتبين أسباب نزولها ..

ومن المعلوم أن المسلمين الأوائل اهتموا بأحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسننه ومغازيه ، وقبل أن تُدوَّن الأحاديث تدويناً عاماً في آخر القرن الأول الهجري ، كانت مدونة في الصدور عند جَمْهَرةِ الصحابة والتابعين ، وكذلك كانت سيرة ومغازي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إذ كانوا يحفظونها كما يحفظون السورة من القرآن ، ويتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم ، فكان علي بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ يقول : " كنا نُعلَّم مغازي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نعلم السورة من القرآن "..
وكان الزهري يقول : " علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة " ..
وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ يقول : " كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا " ، ويقول : " يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها "..

السيرة والحديث النبوي :

شغلت السيرة النبوية حيِّزاً غير قليل من الأحاديث ، والذين ألفوا في الأحاديث لم تَخْلُ كتبهم غالبا عن ذكر ما يتعلق بحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومغازيه ، وخصائصه ومناقبه ، وقد استمر هذا المنهج حتى بعد انفصال السيرة عن الحديث في التأليف وجعلها علما مستقلا ، وأقدم كتاب وصل إلينا في الأحاديث وهو موطأ الإمام مالك (المتوفَّى 179هـ) لم يخل من ذكر جملة من الأحاديث فيما يتعلق بسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوصافه وأسمائه ، وذكر ما يتعلق بجهاده ..
وصحيح الإمام البخاري (المتوفَّى 256هـ) ذكر فيه قطعة كبيرة مما يتعلق بحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة وبعدها ، كما ذكر كتاب (المغازي) وما يتعلَّق بخصائصه وفضائله ، وفضائلِ أصحابه ومناقبِهم ، وأيضا صحيح الإمامِ مسلم (المتوفى 261هـ) اشتمل هو الآخر على جزء كبير من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفضائله وشمائله ، وفضائل أصحابه ، والجهاد والسِّيَر ..
وكذلك صنع الإمام أحمد (المتوفَّى 241هـ ) في مسنده الكبير ، وأبو داود ، والنسائيُّ ، والتِّرمذي ، وابنُ ماجه ، لم تخلُ كتبُهم من كتاب الجهاد ، وذكر طرف مما يتعلق بالسيرة ، وهذا يدل دلالة كبيرة على الصلة الوثيقة بين الأحاديث والسِّيَر ، فهي جزء منها ..

فكانت العناية بالسيرة أو بالمغازي تأتي ضمن عناية المحدثين بالحديث وجمعه ، فقد كان المحدث يجمع الأحاديث المتفرقة دون تبويب أو ترتيب ، إلا أن التطور والحاجة قادا إلى ترتيب الأحاديث في أبواب خاصة مثل : باب الجهاد ، باب الصلاة .. فتأثرت السيرة والمغازي بهذا التطور الجديد ، حيث جُمِعت في أبواب مستقلة كان من أشهرها باب أو فصل : " المغازي والسير " ..
غير أن المغازي والسير لم تلبث أن انفصلت دراساتها وأبوابها عن الحديث ، حيث أُلِفَتْ فيها الكتب الخاصة بها ، ومع ذلك ظل المحدثون يحتفظون بباب : " المغازي والسير " في كتب الصحاح المشهورة ..

التَّأليفُ في السِّيرةِ على سبيلِ الاستقلالِ :

وقد بدأ التدوين في السيرة النبوية في كتب خاصة مستقلة في النصف الثاني من القرن الأول الهجري .. وقد اعتمد العلماء في تدوينها على قواعد علمية لضبط الروايات والأخبار ، وهي نفس القواعد التي نهجوها في سبيل حفظ باقي المصادر الإسلامية ـ خاصة أحاديث السنة النبوية ـ كقواعد مصطلح الحديث ، وعلم الجرح والتعديل .. فهذه القواعد التي وُضِعت أساسا لحفظ السنة النبوية من الضياع والتحريف ، هي نفسها التي استثمرت لتدوين السيرة النبوية المطهرة .. ومن ثم فإن كتابة وتدوين السيرة تأتي من حيث الترتيب الزمني في الدرجة الثانية بعد كتابة السُنَّة ـ الحديث النبوي ـ ، إذ السنة بدأت كتابتها في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

وكان أول من اهتم بكتابة السيرة النبوية عروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ المُتَوَّفَّى ( 92 هـ) ، ثم وهب بن منبه المتوفى ( 110 هـ ) ، ثم شرحبيل بن سعد المتوفى ( 123 هـ ) ، ثم ابن شهاب الزهري المتوفى ( 124 هـ ) .. فهؤلاء يأتون في مقدمة من اهتموا بتدوين السيرة النبوية ..

ويأتي في مقدمة الطبقة التي تلي هؤلاء محمد بن إسحاق المتوفَّى ( 152 هـ ) ، وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يُعَدُّ من أوثق ما كُتِبَ في السيرة النبوية في ذلك العهد ، ويأتي من بعده محمد عبد الملك المعروف بابن هشام المُتوفَّى ( 213 هـ ) فروى لنا كتابه منقحا ، والذي قال عنه ابن خلكان : " .. وابن هشام هذا ، هو الذي جمع سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المغازي والسير لابن إسحاق ، وهذبها ولخصها ، وهي السيرة الموجودة بأيدي الناس والمعروفة بسيرة ابن هشام " ..

ثم تلت هؤلاء طبقة كتبت في السيرة كتبا كاملة في السيرة النبوية مثل المغازي للواقدي ، والطبقات لابن سعد ، والطبري في تاريخه ، وما تابعه عليه ابن كثير في البداية والنهاية ، وابن الأثير في الكامل في التاريخ..
وكان من نتائج هذه الحركة التدوينية النشطة أن تكونت ثروة غنية من المصنفات في السيرة النبوية ، واكتملت هذه المرويات نقلا ورواية ، وسنداً ومتناً ، فانصبت اهتمامات العلماء فيما بعد - إضافة إلى التأليف في هذا الميدان - على فكرة النقد والتعليق .. وهكذا توالت المصنفات في ذلك تأليفا ونقدا جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة