الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المــلأ

المــلأ

الملأ هم أشراف القوم وقادتهم ورؤساؤهم وسادتهم، وهم البارزون في المجتمع، وأصحاب النفوذ والسيادة، هم أشراف المجتمع وسادته، أو هكذا يعتبرهم العامة، وهم أهل الزعامة والقيادة والرئاسة .
هذا خلاصة ما قاله المفسرون في معنى الملأ، وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة في العديد من السور عند الحديث على قصص الأنبياء، وما جرى بينهم وبين قومهم، وإطلاق القرآن لهذا اللفظ وهذا الوصف على هؤلاء الناس هو من قبيل بيان الواقع لا من قبيل الاستحقاق .

ومن خلال تتبع آيات القرآن وقصص المرسلين نجد أن الوصف الغالب على هؤلاء القوم ( الملأ ) هو معاداتهم للدعوة وأصحابها، ومقاومتهم لانتشارها وتعذيبهم لأتباعها، وعادة ما يقودون حملات التكذيب والافتراء والتضليل ضد الأنبياء أو ورثتهم الدعاة إلى الله ، قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(سـبأ:34، 35) .
فأعلنوا منذ اللحظة الأولى كفرهم، وأظهروا معاداتهم، ثم جاهروا بسب الأنبياء ووصفهم بما ليس فيهم تنفيرًا للناس منهم وصرفًا لهم عنهم .
فنوح عليه السلام : (قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(الأعراف:60) .
وهود عليه السلام لما أرسل إلى قوم عاد : (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)(الأعراف:66) .

وعلى هذا سار الملأ من قوم كل نبي في إيذاء الأنبياء والدعاة إلى الله : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)(الذاريات:52) .
وكان إيذاء الملأ من قريش لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم أعظم الإيذاء ، فمرة يمشي عمه خلفه ليصرف الناس عنه ويقول : لا تطيعوه ولا تسمعوا منه .ومرة يلقون سلى الجزور على ظهره وهو ساجد عند الكعبة . ومرة يرده سادة ثقيف أقبح رد ويغرون به سفهاءهم فيرمونه بالحجارة ويخرجونه من ثقيف . ومرة يخرجونه وأصحابه من بلده الكريم . هذا إلى جانب التشنيعات والافتراءات التي افتروها عليه، كما افترى كل ملأ على إخوانه المرسلين من قبله ، فهي سنة ماضية، ورثها عن الأنبياء أتباعهم وورثتهم الذين ورثوا عنهم العلم والعمل والدعوة إلى الله تعالى .

أسباب العداوة
والمتأمل في أسباب مخاصمة الملأ لرسلهم ورفضهم لدعوتهم يمكنه إرجاع ذلك إلى عدة أسباب أهمها :
أولاً : الكبر
وهو آفة مهلكة، وخُلقٌ ذميم، يقود صاحبه إلى رؤية النفس واحتقار الآخرين، فيمنع المتكبر عن معرفة الحق، أو عدم الانقياد له بعد معرفته، فهو من أهم أسباب الحجب عن الهداية وسلوك سبيلها، قال تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)(الأعراف:146) .
وفي الملأ من قوم نوح عليه السلام عبرة وعظة، فقد قالوا لنوح ٍعليه السلام لما دعاهم إلى الله : (مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)(هود: من الآية27) ، وقالوا له : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ)(الشعراء:111) .
وإنما حملهم على قول ما قالوه الكبر الذي ملأ قلوبهم، ومثلهم قوم فرعون الذي علا في الأرض وعتى حتى قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)(النازعـات:24) ، وتابعه قومه على كبره وعلوه فكان الكبر سبيلهم إلى الهلاك : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ)(المؤمنون:46 - 48) .

وقد عانت قريش من نفس المرض ، وشربت من هذا الورد ؛ فأعماهم الكبر عن رؤية نور الحق، وأنساهم وقائع الدهر وتاريخ الأمم فقالوا لداعي الإيمان صلوات الله وسلامه عليه : (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ)(ص:7) .
فصدهم الكبر كما صد من سبقهم عن معرفة الحق واتباعه، وحملهم على جحده وإنكاره، وصدق الله إذ يقول : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوّاً) (النمل:14) ، ويقول: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)(الأنعام:33) .

ثانيًا : حب الرياسة والجاه
الملأ كما قدمنا هم أهل السيادة والشرف، ولهم الملك على الناس، وهم بهذه السيادة وذاك الملك يجلبون المكانة لأنفسهم والرفعة ، فجلبت لهم الرياسة والملك مكانة في قلوب مرؤوسيهم تسلطوا بها على رقابهم، وصارت لهم بها وجاهة دنيوية وسلطان .
ومعلوم أن دعوات الحق لا تفرق بين الخلق على اختلاف طبقاتهم وأشكالهم وألوانهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالناس سواسية إلا من رفعه دينه وقدمته تقواه، وهذا ما يرفضه ذوي السلطان الزائف والجاه ، أن يفقدوا سلطانهم ويذهب عنهم جاههم، فرفضوا لذلك دعوات المرسلين، وظنوا أنهم إنما أتوا ليسلبوهم ملكهم وجاههم ورئاستهم . فقال قوم نوحٍ عنه : (مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)(المؤمنون:24) . وقال ملأ فرعون لموسى عليه السلام : (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ)(يونس:78) . وقالت عاد لنبيهم هود عليه السلام : (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)(هود:53) .
وبمثل ذلك قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)(ص:6) .
قال القرطبي : (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) : كلمة تحذير، أي إنما يريد محمد صلى الله عليه وسلم بما يقول الانقياد له ليعلو علينا ونكون له أتباعًا فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه.(القرطبي 15/151، 152) . وقال ابن كثير عند هذه الآية : "قال ابن جرير : إن الملأ قالوا : إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباعًا ولسنا نجيبه ". وهكذا كان حب الشرف والجاه سببًا في صد الملأ عن سبيل الله .

ثالثًا : الجهالة
رغم أن الظاهر في أمر الملأ أنهم أصحاب الوجاهة والعقل السليم والفكر السديد، ومنهم المفكرون والمنظرون والمبدعون، و .. و .. إلا أن الجهل كان من أهم سمات القوم وصفاتهم، حين عموا عن إدراك الحق الذي جاءت به الرسل فردوه، واستحسنوا الباطل فدافعوا عنه وقبلوه، فلم يقبلوا حجج المرسلين على كثرتها ووضوحها ( كناقة صالح، ونار إبراهيم، وعصا موسى، ومعجزات عيسى) ، ووصفوها بأنها " سحر مبين " أو " أساطير الأولين " ، وكذا حملهم الجهل على رد رسالات الرسل ودعوات الدعاة لبشريتهم : (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ )(الأنعام:8) ، وقالوا : (لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)(فصلت:14) وقالوا : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ)(المؤمنون:24) . أو لأن أتباعهم من الضعفاء الفقراء ، كما قالوا لنوحٍ ولغيره، وزعموا لجهلهم أنهم أفضل عند الله لكثرة أموالهم ووفرة عددهم : (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(سـبأ:35) .

رابعًا : التقليد
كان تقليد الآباء - ومازال - سببًا من أكبر أسباب الضلال، وسبيلاً من سبل الصد عن اتباع الحق والرشاد، وقد عاش الملأ من أقوام المرسلين هذا الأمر فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين، أي بصَّرهم الله سبل الهدى فتركوها ، وسلكوا سبل الردى لا لشيء إلا أنها كانت منهج الآباء .
من لدن نوح وإبراهيم عليهما السلام وإلى نبينا خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام، وحجة كل قوم في ترك الإيمان هي تقليد الأولين السابقين من الآباء والأجداد، وهل أهلك أبا طالب إلا التقليد . وكذا كل معاند كما قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(البقرة:170) ، وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(المائدة:104) ، وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(لقمان:21) .

وقد لخص الله كلامهم وجمع حجتهم في قوله : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(الزخرف:23) .

وهكذا عاش الملأ في كل قومٍ بتلك الأوصاف وهذه الأخلاق في كل زمان فحاربوا كل دعوة بدافع الكبر، وعاندوها بدافع حب الرياسة، خوفًا على مراكزهم وترفهم، ووقفوا في وجهها لسوء فهمهم ولجهلهم الذي عشش في عقولهم وخيم على نفوسهم، والذي حملهم على تقديم فعل الآباء ومعتقدهم على ما جاء به المرسلون من عند ربهم .

وقد تنبه المفسرون إلى أن الملأ يبقون معارضين للدعوة إلى الله تعالى ، يقول ابن كثير عند قوله تعالى : (قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(الأعراف:60) قال : "وهكذا حال الفجار، إنما يرون الأبرار في ضلالة" .(2/440) .
وقال في مكان آخر : "ثم الواقع غالبًا أن يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته" .(2/441)

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة