الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

يشتِمُون مُذَمَّماً، وأنا مُحمّد

يشتِمُون مُذَمَّماً، وأنا مُحمّد

يشتِمُون مُذَمَّماً، وأنا مُحمّد

لمَّا أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بالدعوة في قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(الحجر:94)، جهر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وبيَّن لقومه ما هم فيه من الضلالة والشرك، والجهل والخرافات، ولمّا لم يستطيعوا أن يواجهوا الحُجَّة بالحجة، جاهروه بالعداوة، وعزموا على مخالفته، عصبية وجهلا، وحسداً وحقداً، وتعرضوا له بالسب والشتم من أول لحظة دعاهم فيها، وكان من أوائل وأشد من تعرض له صلى الله عليه وسلم بالسب والإيذاء عمه أبو لهب وزوجته أم جميل ـ حمالة الحطب ـ، وقد نزل فيهما قول الله تعالى: { تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ * سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}(المسد: 1: 5).
وحين علمت أم جميل ما نزل فيها وفي زوجها من آيات قرآنية ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليهما قالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال: لقد أخذ الله ببصرها عني، وكانت تنشد وتقول: مذمم أبينا .. ودينه قلينا .. وأمره عصينا ..

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه عن سب وشتم أم جميل وغيرها من المشركين له: (ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم! يشتِمُون مُذَمَّماً، ويلعنون مُذَمَّماً، وأنا محمّد) رواه البخاري.
ومُحَّمد هو كثير الخصال التي يُحمد عليها، قال ابن حجر: "قوله: (يشتمون مُذَمَّمَاً): كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مُذَمَّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فَعَلَ الله بمذمم، ومُذَمَّم ليس هو اسمه عليه الصلاة والسلام، ولا يُعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفاً إلى غيره".
وقال القاضي عياض: "وقد سماه الله تعالى في كتابه محمداً وأحمد، فمن خصائصه تعالى له أن ضمَّن أسماءه ثناءه .. فأما اسمه أحمد فأفعل مبالغة من صفة الحمد، ومحمد مفعل مبالغة من كثرة الحمد وتكرره". وقال ابن هبيرة: "في هذا الحديث من الفقه: أن الله سبحانه صرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرَّ قريش، وعن اسمه صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقصدون بشتمهم مُذمماً، واسم رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد، وإنما أراد الله سبحانه تنزيه اسمه من أن يعلق به أذى مشرك، على أن إثم المشركين وأوزارهم على ما هي عليه من الثقل، وإنما نزه الله نبيه فقط".
وقال السيوطي: ".. إن قيل كيف يستقيم ذلك وهم ما كانوا يشتمون الاسم بَلِ الْمُسَمَّى، وَالْمُسَمَّى واحد؟ فالجواب: أن المراد كُفِيَ اسمي الذي هو محمد أن يُشتم بالسب". وقال القسطلاني: "(وأنا محمد) كثير الخصال الحميدة التي لا غاية لها، فمذمم ليس باسمه ولا يعرف به، فكان الذي يقع منهم مصروفًا إلى غيره".
وقال الهروي: " (وأنا محمد) أي: لا مذمم، والمعنى أن ما ذكروه أوصاف المذمم، وأنا بحمد الله محمد". وقال ابن تيمية: "فهم وإن قصدوا عينه لكن لما وصفوه بأنه مذمم كان سبهم واقعاً على من هو مذمم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم".
وقال ابن القيم في قصيدته النونية:

وَالله يَصرِفُ ذَاك عَن أهلِ الهُدَى كَمُحَمَّدٍ وَمُذَمَّمٍ اسْمَانِ
هُم يَشتُمُونَ مُذَمَّماً، وَمُحَمَّدٌ عَن شَتمِهِم فِي مَعزِلٍ وَصِيَانِ
صَانَ الإِلَهُ مُحَمَّداً عَن شَتْمِهِم فِي اللَّفظِ وَالمعنَى همَا صِنْوَانِ

وَالسَّبُّ مَرجِعُهُ إلَيهِم، إذْ هُمُ أهلٌ لِكُلِّ مَذَمَّةٍ وَهَوَانِ!

فائدة:

ـ سمَّي الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بـ: "محمد"، و "أحمد"، وذكر اسم محمد في أربع آيات، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}(آل عمران:144)، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}(الأحزاب:40)، {وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}(محمد:2)، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(الفتح:29).
أما اسم "أحمد" فقد ذُكِرَ في القرآن الكريم مرة واحدة في قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}(الصف: 6). وفي الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ من حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي خمس أسماء: أنا محمد وأنا أحمد ..). واسم "أحمد" لم يتسمَ أحدٌ به قبل النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا، إذ ظل موقوفاً عليه ليتسمى به، علامة خاصة على صدق نبوّته، وحماية لهذا الاسم الذي بشَّر به الآنبياء بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(الصف: 6).

ـ اسم نبينا صلى الله عليه وسلم "محمد" حفظه الله تعالى من أن يٌذم أو يُذكر بسوء، إذ أن ذكر اسم "محمد" بعيبٍ أو ذم لا يستقيم به البيان، بل يقبح في العربية، أو بأي لسان، حيث أن معنى "محمد" هو الذي يُحمد ويُمدح ويُثنى عليه، ومن ثم فاسم النبي صلى الله عليه وسلم "محمد" يعجز اللسان عن القدح فيه، وتتساقط اللغة وتتهافت إن أرادت أن تنال منه، وهذا من مظاهر عناية الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يقول لأصحابه: (ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم! يشتِمُون مُذَمَّماً، ويلعنون مُذَمَّماً، وأنا محمّد) رواه البخاري. هذا بالإضافة إلى أن اسم "محمد" لم يكن معروفاً قبل ولادته وبعثته صلى الله عليه وسلم، قال ابن قتيبة: "من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم أنّه لم يُسَمّ قبله أحد باسم محمد، صِيانة من الله لهذا الاسم"، ولم يكن عبد المطلب جَدّ النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عندما اختار لرسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه اسم "محمد"، أنه بهذه الدلالة وهذه المعاني، يقول عبد الأحد داود ـ الذي كان قسيساً وأسلم ـ: "إنها لمعجزة فريدة حقاً في تاريخ الأديان، أن يُطلق اسم "محمد" من جميع أبناء آدم على نجل عبد الله وآمنة في مدينة مكة لأول مرة، ولا يمكن أن تكون هناك حيلة زائفة أو محاولة ما أو تزوير ما في هذا المجال، لأن والديه وأقرباءه كانوا وثنيين ولم يعلموا شيئاً مطلقاً عن التنبؤات العبرية، وأن اختيارهم لاسم "محمد" أو "أحمد" لا يمكن تفسيره بأنه كان على سبيل المصادفة، أو حدثاً عرضيًّا". ويقول الدكتور محمد شيخاني: "ومن الموافقات الجميلة أن ُيلْهَم عبد المطلب تسمية حفيده محمداً، وأنها تسميةٌ أُعِينَ عليها، ولم يكن العرب يألفون هذه الأعلام".

من مظاهر عناية الله عز وجل وتكريمه لنبيه صلى الله عليه وسلم: أن اسمه "محمد" يعطر أجواء الدنيا كلها خمس مرات في كل يوم وليلة في الأذان، ليكون في ترديد اسمه وانتشاره في الدنيا بأسرها في كل لحظة دلالة فريدة على علو منزلته وقدره عند الله عز وجل، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

ألم تر أن الله خلَّد ذِكْره إذْ قال في الخمس المؤذن: أشهد
وشقَّ له من اسمه ليُجِلّه فذو العرش محمود، وهذا مُحَمّد

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة