الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دعوة النبي القبائل والأفراد إلى الإسلام

دعوة النبي القبائل والأفراد إلى الإسلام

دعوة النبي القبائل والأفراد إلى الإسلام

بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، وعدم استجابة أهلها لدعوته، وتعرضهم له بالإيذاء، بدأ يعرض نفسه على القبائل في مواسم التجارة والحج, يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عز وجل، فلم يستجب له منهم أحد، ولكنهم اختلفوا في أساليب ردودهم، فمنهم من ردَّ عليه رداً جميلاً، ومنهم من ردَّ عليه رداً قبيحاً. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟) رواه أحمد وصححه الألباني. وقد ذكر الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث سنين مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين، يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، فيردون عليه أقبح الرد ويؤذونه، ويقولون: قومك أعلم بك، وقال الذهبي: "عن ابن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يُؤْوه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذاك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من الفتك، حتى أبلغ رسالات ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء، فلم يقبله أحد".

وكما عرض النبي الله صلّى الله عليه وسلم الإسلام على القبائل، عرضه كذلك على الأفراد، فأسلم بعضهم، ومن هؤلاء الذين أسلموا: سويد بن الصامت وإياس بن معاذ، وقد مات الاثنان بعد ذلك بشهور قليلة، وأسلم ضماد الأزدي وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أسلم أبو ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الدوسي وكان في إسلامهما فتحاً للإسلام والمسلمين.

- سويد بن الصامت: كان شاعرًا لبيباً (عاقلا) من سكان يثرب، يسميه قومه الكامل، لِجَلَدِهِ وَشِعْرِه وَشَرَفه ونسبه، جاء مكة حاجا أو معتمرا، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال سويد ـ كما ذكر ابن هشام والطبري وابن كثير وغيرهم ـ: "لعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك؟ قال: حكمة لقمان، قال: اعرضها عليّ، فعرضها، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى علي، هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فأسلم، وقال: إن هذا لقول حسن. فلما قدم المدينة لم يلبث أن قتل يوم بُعاث".

- إياس بن معاذ: كان غلاما صغيراً من سكان يثرب، قدم في وفد من الأوس يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، قال ابن حجر: "عن محمود بن لبيد قال: لمَّا قدِم أبو الحَيْسرِ أنس بن رافعٍ مكَّة ومعه فِتية من بني عبد الأشهلِ فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحِلفَ من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم فجلس إليهم فقال: هل لكم إلى خيرٍ ممَّا جئتم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئا، ثمّ ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ: يا قوم هذا والله خيرٌ ممَّا جئتم له، فأخذ أبو الحيسر حِفنةً من البطحاء فضرب وجهه بها وقال: دَعْنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فسكت وقام وانصرفوا، فكانت وقعةُ بُعاثٍ بين الأوس والخزرج، ثمَّ لم يلبَثْ إياس بن معاذ أن هلك (مات)، قال محمودُ بنُ لَبيد: فأخبرني من حضره من قومِه أنَّهم لم يزالوا يسمعونه يُهلِّلُ اللهَ ويُكبِّرُه ويحمَدُه ويُسبِّحُه، فكانوا لا يشُكُّون أنَّه مات مسلماً".

- ضِماد الأزْدي: كان من أزد شنوءة من اليمن، قدم مكة فسمع سفهاءها يقولون: إن محمداً مجنون، فقال: لو أني أتيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد، إني أرقي من هذه الريح (الجن)، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك (أرقيك)؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد .. قال: فقال: أعِدْ عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس (وسط) البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه) رواه مسلم.

- أبو ذر الغفاري: من قبيلة غفار الواقعة بين مكة والمدينة، وكان قبل إسلامه يأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله، ولما سمع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أخاه، ليعلم له علم النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع من قوله ثم يأتيه .. فانطلق أخاه حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر"، فقال أبو ذر: ما شفيتني (أزلت همي) مما أردت، وعزم على الذهاب بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فقال له: (اعرض عليَّ الإسلام، فعرضه فأسلمتُ مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبِل، فقلتُ: والذي بعثك بالحق، لأصرخن بها بين أظهرهم، فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فقاموا فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكب عليَّ ثم أقبل عليهم، فقال: ويلكم، تقتلون رجلا من غفار، ومتجركم وممركم على غفار، فأقلعوا عني، فلما أن أصبحت الغد رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع بي مثل ما صنع بالأمس، وأدركني العباس فأكب عليَّ، وقال مثل مقالته بالأمس .. فكان هذا أول إسلام أبي ذر). ثم رجع أبو ذر رضي الله عنه إلى أخيه وقبيلته ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا .

- الطُفَيْل بن عمرو الدوسي: قصة إسلامه رواها السيوطي في الخصائص الكبرى، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن هشام في السيرة النبوية، وقد رواها كذلك ابن كثير في البداية والنهاية: "كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال قريش، وكان الطفيل رجلا شريفاً شاعراً لبيبا، فقالوا له: إنك قدمتَ بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تَكْلِمَنَّهُ وَلَا تَسْمَعَنَّ مِنْه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعتُ (قررت) أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوْتُ في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا (قطنا) فرَقَاً (خوفا) من أن يبلغني شيء من قوله. قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه فأبَىَ الله إلا أن يُسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً، فقلتُ في نفسي: وَاثُكْلَ أُمَّاه، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني مِنْ أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبِلْتُ، وإن كان قبيحا تركت، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبَى الله عز وجل إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولاً حسناً، فاعرض عليَّ أمرك، قال: فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمتُ وشهدت شهادة الحق.. ثم قال: ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم، فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين".

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك فرصة من الفرص أو مجال من المجالات إلا واستغلها في تبليغ دعوته، للقبائل والأفراد، ثم التقى ببعض رجال من الخزرج، وعرض عليهم الإسلام، فآمن به ستة منهم، ورجعوا إلى المدينة المنورة، قال ابن هشام: "ولمَّا أراد الله عزَّ وجلَّ إظهارَ دينه، وإعزاز نبيِّه صلى الله عليه وسلم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل كعادته، فالتقى برهطٍ من الخزرج أراد الله بهم خيراً، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن مَوالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تَجلسون أُكلِّمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ وعرض عليهم الإسلام .. قال بعضُهم لبعض: يا قوم، تَعْلمون والله إنه لَلنبيُّ الذي توعَّدَكم به يهود، فلا يَسبِقُنَّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأنْ صدَّقوه وقَبِلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام"..
وبعد عام من هذا اللقاء وفي السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية، جاء إلى موسم الحج اثنا عشر رجلاً من الذين أسلموا من أهل المدينة، فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة فبايعوه بيعة العقبة الأولى، ثم كانت بيعة العقبة الثانية في العام الثالث عشر، والتي كانت إحدى مقدمات الهجرة النبويَّة، وبناء الدولة المسلمة في المدينة المنورة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة