الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

البكاء عند قراءة القرآن

البكاء عند قراءة القرآن

البكاء عند قراءة القرآن

البكاء عند قراءة القرآن سنة عظيمة وعادة لصالحي المؤمنين قديمة، ذهبت عن كثير من مسلمي هذه الأزمان أو كادت، فقلَّ أن تجد إنسانًا يبكي عند سماع آيات القرآن، أو يذرف الدمع عند تلاوتها خشوعا وتأثرا صدقا وإخلاصا؛ ربما لانشغالنا بالدنيا وأمورها عن القرآن، أو لأننا لم نعد نتدبره حق التدبر، ونتلوه حق تلاوته، أو قصرنا في فهمه وتعظيم قائله ومنزله؛ فغابت عنا لذته، وذهبت عنا حلاوته، وقل تأثر القلوب بوعده ووعيده وقوارعه وباهر آياته وعظيم معجزاته، مع أن التأثر بالقرآن من الأمور المحمودة والشواهد المعدودة التي تدل على خشوع القارئ وخضوعه، وطهارة قلبه؛ فإن طهارة القلب أصل في التأثر بالقرآن كما قال سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا".

يقول الإمام النووي رحمه الله: "ويستحب البكاء، والتباكي لمن لا يقدر على البكاء، فإن البكاء عند القراءة صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين".

وصدق رحمه الله؛ فقد أخبر الله تعالى أنها صفة النبيين والمرسلين وأولي العلم الصادقين، كما ذكر ذلك عنهم في سورة مريم وسورة بني إسرائيل؛ فقال وهو أصدق القائلين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}[مريم:58].

وفي سورة الإسراء: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}[الإسراء:107- 109].

وعلى العكس من هؤلاء طائفة لا تتأثر بالقرآن ولا يؤثر فيهم سماعه، فاستنكر الله عليهم ذلك غاية الاستنكار، وأنكر عليهم غاية الإنكار؛ فقال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:47، 48]، وقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وأنتم سامدون}[النجم:59، 60]. يعني: تغنون وتلهون وتلعبون؟..
فهذا حال الغافلين المعرضين لا يبكون لآيات القرآن ولا يتأثرون.

أما حال النبي الأمين والصحابة الطيبين والتابعين المهتدين فكانت كلها بكاءً من خَشية رب العالمين، وتأثرًا بالذكر الحكيم.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ علي القرآن. قال فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري. فقرأت النساء حتى إذا بلغتُ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}[النساء:41] قال: فرفعت رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي - فرأيت دموعه تسيل. وروى أبو داود والترمذي في الشمائل وابن حبان وغيرهم عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسمعت لصدره أزيزًا كأزيز المِرجل. وفي رواية أبي داود: "فإذا لصدره أزيز كصوت الرحى".

وهكذا كان حال صحابته رضي الله عنهم أجمعين؛ كلهم يتصف بهذه الصفة. فهذا الصديق الأكبر لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم الوجع وأذن للصلاة قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف – رقيق القلب – لا يملك دمعه إذا قام يصلي لم يسمع الناس من شدة بكائه. فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فأعادت. فقال: "إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس".
وسمع عمر يومًا يصلي بالناس فغضب وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.

وكان أبو بكر يقول: "ابكوا.. وإن لم تبكوا فتباكوا، تكلفوا ذلك فإن في ذلك النجاة لكم".
وهذا الذي قاله أبو بكر هو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، كما روى ذلك ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص بسند جيد: [اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا].

وليس معنى ذلك أن يظهر الإنسان البكاء رئاء الناس ليحسبوه خاشعًا وليس هو بخاشع، وإنما المراد حث النفس وتعويدها على البكاء حتى يصير عادة وسجية لها، وكما جاء في الحديث: [إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم]. فكذلك إنما البكاء بالتباكي، والتباكي يستجر البكاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: [عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله](رواه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس). وقال: [لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع](رواه الترمذي وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة).

وكما كان هذا حال أبي بكر، كذلك كان حال عمر بن الخطاب الخليفة الراشد، فقد ورد عنه أنه كان يكثر من قراءة سورة يوسف في العشاء والفجر، وكان إذا قرأها يبكي حتى يسيل دمعه على ترقوته، وقرأها يومًا حتى بلغ قوله تعالى على لسان يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}[يوسف:86]. فبكى حتى سمع الناس نشيجه ونحيبه من خلف الصفوف.
وسمع يومًا آية فمرض أيامًا يعوده الناس لا يعرفون سبب مرضه.

وكان في وجه ابن عباس خطان أسودان من كثرة البكاء.

وبالجملة فقد كان هذا حال الصحابة أجمعين، ولو ذهبنا نستقصي أحوالهم ونذكر مناقبهم في هذا الجانب لطال بنا المقام، ولكن اسمع لوصفهم من رجل يعلم حالهم فهو منهم وإمام من أئمتهم وخليفتهم الرابع عليّ رضي الله عنه، بعد أن صلى الصبح يومًا جلس يبكي حتى طلعت الشمس، ثم قبض على لحيته وقال: "لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أحدًا يشبههم؛ كانوا يصبحون شعثًا غبرًا صفرًا بين أعينهم كمثل ركب المعزى، قد باتوا لله سجدا وقيامًا يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهطلت أعينهم بالدموع فاخضلت بها لحاهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين". فما رؤى بعدها مبتسمًا حتى مات رضي الله عنه.

كن كالصحابة في زهـد وفي ورع .. .. الناس هم ليس لهم في الخلق أشباه
رهبــان ليــل إذا جــن الظلام بهـم .. .. كم مسبل دمعا في الخـــــد أجــراه
وأســد غــاب إذا نادى الجهاد بهـم .. .. هبـّـوا إلى المـوت يستبـقـون لقيـاه

وجاء من بعد الصحابة التابعون، فسلكوا جادتهم واتبعوا سبيلهم واهتدوا بهديهم، فكان حالهم مثل حال الصحابة أو قريبًا منه، بل زادوا في الصعق والغشي والصرع بل والموت.

محمد بن المنكدر، إمام من أئمة التابعين، بكى يومًا بكاءً شديدًا، فاجتمع عليه أهله فسألوه عن سبب بكائه فاستعجم لسانه (لم يستطع أن يرد عليهم)، فدعوا أبا حازم سلمة بن دينار، فلما جاء وسكن محمد سأله أبو حازم عن سبب بكائه؟ فقال: قرأت قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}[الزمر:47] فبكيت، فبكى أبو حازم وعاد محمد إلى البكاء، فقال أهل ابن المنكدر لأبي حازم: جئناك تخفف عنه فزدته بكاءً؟!
وعندما احتضر ابن المنكدر جعل يردد هذه الآية، ثم ابتسم وقال: لو تعلمون لأي شيء أصير لفرحتم.

ومات زرارة بن أوفى من آية سمعها رق لها قلبه فما تحملها فمات.
قال عنه الإمام الذهبي في السير (4/516): "الإمام الكبير، قاضي البصرة، أبو حاجب العامري، البصري، أحد الأعلام... صح أنه قرأ في صلاة الفجر فلما قرأ: {فإذا نقر في الناقور} خر ميتا. وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين... قال: عتاب بن المثنى القشيري، حدثنا بهز بن حكيم، قال: صلى بنا زرارة في مسجد بني قشير، فقرأ: {فإذا نقر في الناقور} فخر ميتا، فكنت فيمن حمله إلى داره".

فلما طهرت قلوبهم ورقت وعقلت عن الله تأثرت؛ فبكت العيون، ووجلت القلوب، وخشعت الأبدان، وتغيرت الأخلاق، وحسنت الأعمال، واستقامت الأحوال.. ولو كانت قلوبنا كقلوبهم لكانت أحوالنا كأحوالهم، ولكن صدق الإمام الشاطبي إذ يقول في حرز الأماني ووجه التهاني:
ولو أن عينــا ساعدت لتوكفت .. .. سحــائبها بالدمـع ديـما وهـطــلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها .. .. فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة