الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ماذا بعــد رمضـان؟!

ماذا بعــد رمضـان؟!

ماذا بعــد رمضـان؟!

سلام من الرحـمن كل أوان.. ... ..على خير شهر قد مضى وزمان
سـلام على شهر الصـــيام فإنه.. ... ..أمـان من الرحمن كل أمـــــــــان
لئن فنيت أيامك الغــــــر بغتة .. ... .. فما الحـــزن من قلبي عليك بفان

هاهو شهر رمضان قد مضى .. مضى بأيامه الفاضلة، ولياليه العامرة، مضى وخلّف الناس بعده بين شقي وسعيد، وفائز وخاسر.

لقد فاز في رمضان من فاز بالرحمة والغفران، والعتق من النيران. وخسر من خسر بسبب الغفلة والبطلان، والذنوب والعصيان، فليت شعري من المقبول منا فنهنيه، ومن المطرود فنعزيه..
وإن امرءًا ينجو من النار بعد ما.. ... .. تزود من أعمالها لسعيد

الاستقامة
ونحن ما زلنا نعيش في آثار نفحات رمضان يجب علينا أن نقف لنتساءل ماذا بعد؟
ماذا بعد أن انقضى رمضان؟ وما هو حالنا بعد أيام قليلة من رمضان؟ ماذا بعد شهر الرحمة والغفران؟ وماذا بعد شهر التوبة والرضوان؟ ماذا بعد أن اكتحلت عيوننا بدموع المحبة والخوف والرجاء، وعزت جباهنا بالخضوع والذلة لرب الأرض والسماء؟ بعد أن عاينا القرب والإقبال وشاهدناه، القرب من الله لعباده، والقرب من العباد إلى الله، ماذا بعد شهر الجد والاجتهاد والتشمير، بعد أن كان القرآن حياتنا، والصلاة والوقوف بين يدي الله لذتنا، وذكر الله غذاءنا.

بعد أن عايشنا كل ذلك، كان ولا بد أن يأتي هذا السؤال، وهو ماذا يجب علينا بعد رمضان، بل وبعد كل موسم من مواسم الطاعة؟

والإجابة نزل بها الوحي منذ مئات السنين، وأجاب النبي الأمين - صَلى الله عليه وسلم - على السائلين الطالبين العلاج الناجع والدواء النافع، فقال: "قل آمنت بالله ثم استقم".

إذا كان الله قد حباك بشجرة الإيمان، فيلزمك أيها الموحد معها وتحت ظلها أن تستقيم وأن تعتصم بالسير على الطريق، وأن لا تحيد عنه. الاستقامة.. إنها العلاج، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[فصلت:30].
قال أبو بكر: استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً.
قال عمر بن الخطاب: "لم يروغوا روغان الثعالب".

فيا من رفعت كفيك في رمضان طالبًا الهداية، راغبًا الإنابة، زاعمًا الرجوع، مدعيا الإقبال، هل صدقت في زعمك، ووفيت مع الله بعد رمضان؟ أم أنك رغت روغان الثعلب فتعاملت مع الله بذمتين: ذمة رمضانية، وذمة غير رمضانية، ولقيت الله بوجهين، وقد قال النبي – صَلى الله عليه وسلم -: "شر الناس ذو الوجهين" فكان حالك قريبًا من حال المنافقين. (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة:14، 15].

أسباب معينة
الاستقامة هي الحل وهي السبيل، وهذه الاستقامة لا تتأتى بالأماني، وإنما لها شرائط وأسباب:

أولا: الاستعانة بالله:
أن تعلم أن الذي أقامك لعبادته في رمضان هو الله، وهو وحده القادر على أن يعينك على المداومة والاستمرارية فليست الاستقامة شطارة منك ولا قدرة فيك، ولا فتوة في جنابك، وإنما هي محض منة الله وفضله أن يوفق عباده للطاعة ثم يتقبلها منهم، وهذا الاعتراف منك هو بداية الاستقامة. أما الناظر إلى عمله المحسن الظن بنفسه الذي يظن أن عبادته إنما هي بقدرته وقوته؛ فهذا يكله الله إلى نفسه، ومن وكله الله لنفسه هلك، ولذلك كان من دعاء النبي – صَلى الله عليه وسلم -: "ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا"[أبو داود (4426)]، "إنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة"[أحمد (2678)].

ولذلك كان قول أهل الجنة عندما دخلوا الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف:43]. فهو اعتراف بأن هذا الثواب مقابل عمل، وهذا العمل إنما هو بتوفيق الله أولاً وآخرًا. (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)[الإنسان:30]، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[التكوير:29].

ثانيا: المجاهدة:
أن تعلم أن الاستقامة لا تتحصل بالهجوع في المضاجع، ولا بالاستمتاع بكل ما لذَّ وطاب من الشهوات والملذات، ولا بأن تذوق للراحة طعمًا، وللنوم غمضًا، بل تتأتى بالمجاهدة والمثابرة والمصابرة، مجاهدة للنفس، والهوى، والشيطان، ومثابرة على فعل المأمورات والإكثار من الطاعات، ومصابرة عن الشهوات والمنهيات، حتى يأتي بأمر الله على تمامه. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت:69]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة:24].

قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا وضع قدمه في الجنة.
وقال الشافعي: لا ينبغي للرجل ذي المروءة أن يجد طعم الراحة، فإنما هو في هذه الحياة الدنيا في نَصَبٍ حتى يلقى الله.

إن الله لا يَمُنُّ عليك بالاستقامة ويذيقك لذتها ويعطيك ثوابها، إلا إذا ثابرت عليها وعملت لها ودعوت الناس إليها، وجاهدت حتى تصل إليها.

ثالثا: رفقة أهلها:
وهذا من أكبر العون عليها، ومن أعظم أسباب الثبات عليها، وقد قال جعفر بن محمد: "كنت إذا أصابتني فترة جئت فنظرت في وجه محمد بن واسع، فأعمل بها أسبوع ".. وإنما سهلت الطاعة في رمضان لكثرة الطائعين، ووجود القدوات ييسر الأعمال، وإنما الوحشة في التفرد والغفلة تركب الواحد وهي من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

4ـ المحافظة على الأوراد:
وأعظمها الأوراد الموظفة في السنة كأذكار الصباح والمساء، والسنن الرواتب، وقيام الليل.. وينبغي على المسلم أن يجعل له وردًا خاصا من القرآن الكريم وصلوات النوافل وعددا من التسبيحات والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يحافظ عليها ويجعلها من مهمات يومه التي لا يفرط فيها ولا يستغني عنها .

الاستقامة والذنوب:
ثم إن من الواجب أن يعلم أن هذه الاستقامة لا يعيبها أن تنكب ببعض الذنوب وأن يصاب صاحبها ببعض الفتور، فإن هذا لابد منه كما جاء في الحديث: "والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".

فالذنب قدر يحتج به بعد التوبة منه، وأما الاستغفار فهو مطلب شرعي محبوب إلى الله تعالى.

روى مسلم عن أبي ذر عن رسول الله – صَلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم.. ياعبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم.. يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم".

فالاستقامة قد يصيبها ما يصيبها، فما دورك أنت إذا خرقت توبتك بذنب أو أصيبت بثلم؟ إن دورك هو المعاودة، وإعادة المحاولة. (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ)[الزمر:54]. فلا تيأس من الله ولا تقنط من رحمته سبحانه، فإن القنوط باب من أبواب الكفر.

وأكبر ما يصيب الاستقامة الفتور والضعف والتقصير في بعض الأحيان، وهو أمر لازم دلَّ عليه ما رواه أحمد بسند حسن أن رسول الله – صَلى الله عليه وسلم – قال: "إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإن أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فاعتصموا بها على الفرائض".

فالفرائض والواجبات وترك المحرمات، حدود ينبغي أن يلزمها المستقيم حتى يكون مستقيمًا، وحتى في فترات الضعف وخور العزيمة لا يجوز له تجاوز هذه الحدود، فإذا فرط في بعض النوافل، بعض الأوقات، فلا يقدح ذلك في استقامته، ولكنه عليه بالمجاهدة حتى يعود إلى قوته، وينتقل من فترته إلى شدته.

ونسأل الله أن يعيينا على طاعته، ويديمنا على محبته، ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة