الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فبمَ تدخـل الجنة إذًا ؟!

فبمَ تدخـل الجنة إذًا ؟!

فبمَ تدخـل الجنة إذًا ؟!

ترسخ في فهوم الناس أن معنى الجهاد يتمثل في شعبة واحدة وهي مقارعة العدو في ساحات الوغى والقتال، وغاب مفهوم الجهاد بمعناه الواسع عن كثير من المتحدثين في الإسلام.

والجهاد بالمال لا يقل أهمية عن الجهاد بالنفس في كثير من الأحايين، إذ كيف يستطيع المجاهد أن يقوم بمهمته العظيمة دون توفر آلات القتال، وعدم توفر من يكفل أهله وعياله في غيبته، أو في حال استشهاده؟.

وقد وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بأبلغ بيان؛ فعن زيد بن خالد الجهني قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله فقد غزا"[رواه البخاري ومسلم واللفظ له]. وأوضح من هذا وأصرح مارواه الإمام أحمد وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" . رواه أيضا أبو داود والنسائي والدارمي وصححه الألباني.

والقرآن الكريم أولى الجهاد بالمال أهمية فائقة، فدائمًا يقرن الجهاد بالنفس مع الجهاد بالمال، فهما صنوان متلازمان؛ بل إن الجهاد بالمال جاء مقدمًا على الجهاد بالنفس في جميع الآيات التي تتحدث عن الجهاد بالنفس والمال سوى آية واحدة، وهي قوله تعالى في سورة التوبة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[التوبة:111] مما يدل على الأهمية البالغة للجهاد بالمال.

وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بأهمية الجهاد المالي، ففي خبر مبايعته صلى الله عليه وسلم للصحابي بشير بن الخصاصية، واعتذار بشير بأنه لا يستطيع الجهاد والصدقة، يأتي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم حاسمًا.. فعن بشير بن الخصاصية قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لا بايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأن أؤدي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وأن أصوم شهر رمضان وأن أجاهد في سبيل الله فقلت يارسول الله أما اثنتين فوالله لا أطيقهما الجهاد والصدقة فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف إن حضرت تلك جشمت نفسي وكرهت الموت والصدقة فوالله مالي إلا غنيمة وعشر ذُودٍ هنّ رسل أهلي وحمولتهن قال فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها ثم قال: فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذا قلت يارسول الله أبايعك فبايعته عليهن كلهن. [قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط واللفظ للطبراني ورجال أحمد موثقون.. وضعفه الألباني].

وثواب الباذل وأجره جزيل؛ فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة ففرغها عثمان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد هذا اليوم". قالها مرارًا.[أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: صحيح].

ولا يجد المتأمل أبلغ من الصورة التعبيرية لأولئك النفر الذين انفعلت نفوسهم فظهرت آثار الحزن على قسمات وجوههم، وأمطرت عيونهم لؤلؤًا تعبيرًا عمَّا يجيش في صدورهم. قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)[التوبة:91، 92].

الجود بالمال جود فيه مكرمة .. ... .. والجود بالنفس أقصى غاية الجود

تنافس الصحابة

والتنافس في مرضاة الله شيمة الصحابة، والمسارعة بالخيرات صفة ملازمة لهم، وقصة عمر وأبي بكر رضي الله عنهما دلالة أكيدة على ذلك. روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله! قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده!! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا". [قال الألباني: حسن].

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يفرق في المجلس ثلاثين ألفًا، ثم يأتي عليه شهر ما يأكل مزعة لحم.

ويخبر عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال: "لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفًا وهي ترقع درعها".

قال الإمام الذهبي: الشجاعة والسخاء أخوان، فمن لم يَجُدْ بماله فلن يجود بنفسه.

ويقول يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه؛ فإنه إن لدغك قتلك سمه. قيل: وما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة النبوية أهمية الجهاد بالمال فقال: "والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس كما في قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[التوبة:41]، وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أعظم درجة عند الله)[التوبة:20]، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[الأنفال:72]. وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم، فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقة لله، والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة، لا يوافق أنه يُقتَل في الجهاد، ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل ولا يهون عليه إخراج ماله، ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، لكن منهم من كان جهاده بالمال أعظم، ومنهم من كان جهاد بالنفس أعظم".

فمن هذه النصوص يتضح خطر الجهاد بالمال ومدى أهميته، فإذا كان الكافرون ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله وهم لا يجنون من وراء ذلك سوى الحسرة والهزيمة في نهاية المطاف، أفلا ينفق ويبذل المؤمنون من أموالهم لإرساء قواعد الدين والتمكين له في الأرض؟.

(هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة