الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أخشع في صلاتي وأتعرف على الله من خلال القرآن؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أشعر بأنني لا أستشعر الخشوع في الصلاة أو حتى عند سماع القرآن، ونادرًا ما يحدث ذلك؛ هل هذا علامة على قسوة قلبي؟ أريد أن أستشعر حلاوة العبادة، أو بالأحرى أريد أن أستشعر أنني أمة لله عز وجل، أريد أن أستشعر هذا، وأريد أن أعظمه كما يجب، وأريد أن أعرفه كما يريدني أن أعرفه، لكنني لا أدري كيف! أفكر بأن القرآن سيجيبني عن هذا، لكن كيف أعرف الله من القرآن؟

أخاف من الرياء كثيرًا، فأحيانًا أشعر بأن الناس يرون أنني صالحة فقط لمجرد الظواهر، لكنني لا أرى نفسي كذلك، فأنا مقصرة جدًا في العبادة.

لم أعد أقرأ القرآن، ولم أعد أخشع في الصلاة كما يجب، ولم أعد أصبر كثيرًا أو أنصت بتركيز للقرآن، وأشعر بأنني تغيرت، وأشعر بأن حياتي بلا معنى، كأن العبادات التي أؤديها أصبحت روتينًا لا غير.

ومع هذا ليس لدي صديقات، فأشعر بالعزلة، ليس لأنني لا أريد، ولكن لم أجد صحبة صالحة، مع أنني أرى أن أمي وأخواتي أولى بصحبتي ومحبتي من أي أحد، لكنهن أكبر مني سنًا واهتماماتهن مختلفة عني، ما عدا أمي.

وفي الدراسة لا توجد صديقة حقيقية أساسًا، وأشعر بأن هذا أفضل، لكنه أحيانًا يزعجني، لأنني أراهن في الفسحة يذهبن مجموعات، فأبقى لوحدي، وإذا أجبرت نفسي على الاندماج معهنَّ فلا اهتماماتي كاهتماماتهن، وأشعر بأنني تحت الضغط مع مَن هم غير أهلي، وأهتم بكل كلمة قيلت لي أو صدرت مني، فلا أكون على راحتي وطبيعتي.

أنا أرتل القرآن بيني وبين نفسي، وأذهب إلى سطح المنزل -أو عندما يغادر الأهل البيت- أرتل القرآن، وأشعر بسعادة بذلك، ولا أستطيع أن أرتل أمام الأهل لأنني أحرج، كنت دائمًا أتمنى أن أجد صديقة مهتمة بهذا الأمر، لكن لم أجد، ومع الوقت لم أعد أرتل مع نفسي.

لا أستطيع تنظيم وقتي بالرغم من معرفتي بأن هذا ضروري، وبأن علي التزامات عاجلة، وإذا تم تأجيلها أكثر سأندم، وعندما مررت بظروف صعبة كنت أدعو الله بشدة وأستشعر بأنه سيستجيب، وأنه يراني ويسمعني.

أعلم أنني حتى وإن لم أذكر نفسي بهذا فهو أعلم بي، لكن: هل ما مررت به من أزمات لكي أتقرب أكثر إلى الله؟ وكيف أعبده وأدعوه حتى في السراء، عدا عن الشكر والحمد؟ لا أشعر بأنني أفعل ما يجعلني مميزة عند الله ويتم ذكري في الملأ الأعلى.

أشعر بأنني عادية، وبأن صلاتي غير مقبولة لأنها بلا خشوع، وأشعر بإرهاق وبإحباط من الدراسة، إلّا أن علي أن أستمر، لكن أنا كفتاة كيف أربط دراستي بالله إذ أشعر بأنها مضيعة للوقت؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سائلة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -أختنا الكريمة- في إسلام ويب، وأسأل الله تعالى أن يشرح صدرك، ويزيل همك، ويرزقك حلاوة الإيمان وقربًا منه تعالى.

وردًا على استشارتك أقول، ومن الله أستمد العون: سوف أجيب على استشارتك إجابة شاملة -بإذن الله تعالى- تشمل الجانب الشرعي والنفسي والتربوي، ولعل الله تعالى أن ينفعك بها.

أولًا: الجانب الشرعي:
• المسلم ليس ثابتًا في مسألة الخشوع، بل ذلك يتغير بتغير حاله، وقد يحصل له نوع من تشتت الذهن بسبب ما تعتريه من المشاكل؛ ولذلك فإن الخشوع يكون في الثلث الأخير من الليل وفي صلاة الفجر أكثر من غيرها من الأوقات؛ والسبب خلو الذهن من المشوشات.

• ضعف الخشوع لا يعني بالضرورة قسوة القلب، بل هو ناتج عن المشوشات التي تعتري الإنسان كما مضى، والقلب ما سمي بذلك إلا نتيجة تقلبه.

• لم يكن الخشوع ثابتًا حتى عند الصحابة مع كونهم خيرة هذه الأمة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذلك فقد اشتكوا للنبي ﷺ من ضعف خشوعهم، فقال لهم النبي ﷺ: «‌إِنَّ ‌الْإِيمَانَ ‌لَيَخْلَقُ ‌فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَيَتْلُو، فَاتْلُوا الْقُرْآنَ يُجَدِّدُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ».

• العبادة انقياد وامتثال لأمر الله سبحانه، واستشعار القلب للخشوع ووجود اللذة الروحية يزيد في الأجر، وليس شرطًا دائمًا أن يجده الإنسان، فالقلب قد ينشغل أحيانًا، ولذلك من رحمة الله بعباده كما قال ابن عباس رضوان الله عليه: "الحمد لله الذي قال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} ولم ‌يقل: (‌الذين ‌هم ‌في ‌صلاتهم ساهون) "، فانظري فقه هذا الصحابي -رضوان الله عليه- فقد فهم أن السهو يحصل أثناء الصلاة، ومع هذا يؤجر الإنسان وصلاته صحيحة.

• استشعارك أنك أمة لله تأتمرين بأمره، وتفعلين ما يرضيه، وتجتنبين ما يسخطه لا يأتي دفعة واحدة، بل يأتي بالتدرج والمجاهدة، وصدق الله حيث قال: {‌وَالَّذِينَ ‌جاهَدُوا ‌فِينا ‌لَنَهْدِيَنَّهُمْ ‌سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، فمن جاهد نفسه وجد حلاوة الإيمان.

ثانيًا: الجانب الإيماني: كيف أعرف الله من القرآن؟
معرفة الله من خلال القرآن تأتي من خلال ما يأتي:
1- معرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة معانيهما، ومعرفة فوائدهما السلوكية؛ فهذا يوسع مدارك المسلم في معرفة ربه، مثل: الرحمن، الرحيم، الرزاق، السميع، الودود، اللطيف، الحفيظ، القريب، المجيب، ... وهكذا، فهذه الأسماء الواردة في القرآن والسنة ربنا سبحانه يعرف عباده بنفسه، والمؤمن حين يقرأ قوله تعالى: {‌وَهُوَ ‌مَعَكُمْ ‌أَيْنَمَا ‌كُنْتُمْ}، فهذا خطاب لكل شخص، يربي الإيمان في نفس المؤمن ويُذهب الخوف.
2- تدبر قصص الأنبياء يعلّمنا الصبر واليقين والثبات والتأسي بهم.
3- تدبر آيات الله الكونية تؤكد عظمة الله وحقارة الإنسان وضعفه، فيلين قلبه لربه سبحانه، وتُزرع في نفسه محبة الله وتعظيمه.

ثالثًا: الجانب النفسي: ما تحسينه طبيعي وليس مرضًا.
• شعور الإنسان بأن عبادته صارت أشبه بالروتين يحدث حينما تزداد عليه الضغوطات المختلفة، ولذلك ينعدم الخشوع ويتشوش العقل، فيحدث عنه السهو في صلاته، وهذا يحدث حتى للصالحين من هذه الأمة، ولذلك قال ﷺ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي، جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَا ‌يَدْرِيَ ‌كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهْوَ جَالِسٌ»، فما يحدث لك أمر طبيعي، وكونك تعين ذلك علامة خير.

• الخوف من الرياء علامة لإخلاص العبد، وليس هو من الرياء؛ لأن المنافق في الأصل لا يخاف الرياء بل يرغب فيه.

• من الطبيعي جدًّا أيضًا أن يحصل الفتور في العبادة، وهذه طبيعة الإنسان؛ قد ينشط أحيانًا وقد يفتر في حين آخر. ففي الحديث الصحيح: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ ‌فَتْرَتُهُ ‌إِلَى ‌سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ»، والشرة معناها النشاط، وقد نص الحديث أن النشاط لا يدوم، بل يعقبه فتور، لكن العبرة: أين صار موقع الفاتر عن العبادة؟ هل لا زال مستقيمًا على الخير أم زلت قدمه وترك؟

رابعًا: العزلة والصحبة:
عدم وجود صديقات لا يعني خللًا فيك؛ فكثير من البنات ذوات الوعي العميق لا يجدن من يشبههن من ناحية التفكير والاهتمامات، ولذلك لا ينسجمن مع بنات جنسهن، وهذا طبيعي، فأنت لا تحتاجين صديقات كثيرات، بل لو وجدتِ واحدة فقط تتناسب مع اهتماماتك وتفكيرك فذلك كاف بإذن الله.

وهذه الصديقة ستتعرفين عليها من خلال اللقاءات مع بنات جنسك، ومن هنا يمكنك اصطفاؤها، مع أن هذه الصحبة ليست شرطًا لسعادة الإنسان، بل قد تكون العزلة هي الحل في زمن الفتن، والالتجاء إلى الله هو الحل، فهو السعادة الحقيقية، وقد قال بعض أهل العلم: "من وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟".

ارتجافك من القراءة أمام الأهل أو الناس طبيعي، وهذا ناتج عن الحياء وليس ضعفًا، والشيء الطيب أنك كنت ترتلين في نفسك، فهذا خير، فلا تتخلي عنه.

خامسًا: الجانب التربوي: كيف تستعيدين علاقتك بالعبادة؟
خطوات بسيطة للخشوع:
- أحسني الوضوء.
- وأكملي جميع أعمالك التي تشغل بالك.
- وابتعدي عن المشوشات بحيث تصلين في غرفة مستقلة لا يراك فيها أحد، ثم أدّي الصلاة كما علمنا نبينا ﷺ، وانظري في حال القيام إلى موضع السجود، ولا تجعلي أمامك ما يشوش عقلك.
- وفي حال قراءة القرآن اقرئيه بتمهل وتدبر، وحبذا لو كان تدبر الآيات أثناء تلاوة القرآن خارج الصلاة مع الاستعانة بأحد تفاسير القرآن.
- عودي لتلاوة القرآن تدريجيًا بحيث تقرئين بعد كل صلاة ورقتين فقط، وبهذا ستختمين جزءًا كل يوم، ثم يمكن أن تزيدي عدد الأوراق وهكذا.
- اختاري آية واحدة أو آيتين مع قراءة تفسيرها من كتاب "التفسير الميسر".
- استمعي لقارئ تشعرين أنك تخشعين أثناء سماع تلاوته، فهذا يعينك على التدبر والخشوع.
- أكثري من التضرع بالدعاء بين يدي الله تعالى، مع تحين أوقات الإجابة، ومنها الثلث الأخير من الليل وأثناء السجود.
- وأكثري من دعاء: "اللهم حبّب إليّ الإيمان وزيّنه في قلبي، وكرّه إليّ الكفر والفسوق والعصيان، واجعلني من الراشدين"، فهذا الدعاء وغيره أحدث تحولًا في حياة كثير من المسلمين.

سادسًا: الدراسة وربطها بالله:
- ينبغي على طالب العلم أن يربط دراسته بالله كي يحصل على الأجر والثواب، وكي يصير طلب العلم عبادة يؤجر عليها المسلم، فأنت عندما تدرسين بنية الطاعة لوالديك يكون لك بذلك أجر.
- وحين تدرسين بنية أن تكوني نافعة لأمتك لك بذلك أجر.
- وحين تدرسين بنية أن ترفعي عن نفسك الجهل فلك بذلك أجر.
- الدراسة ليست مضيعة، بل هي طريق قد يجعله الله سببًا لرزقك، وقد يكون لك فيه رفعة وقيمة ومكانة.

سابعًا: لماذا مررتِ بالأزمات؟
- الإنسان مبتلى، ومن صبر نال الأجر من الله، ولا بد من الفرج بعد الشدة كما قال تعالى: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرًا}.

- الابتلاء علامة محبة الله تعالى للعبد وليس علامة غضب، كما صح في الحديث: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»، فعليك أن ترضي بقضاء الله وقدره، وحذار أن تتسخطي، وإلَّا فالجزاء من جنس العمل.

- بالابتلاء ترفع الدرجات ويعظم الأجر، ويتقرب العبد من ربه، وما دمتِ تدعين وتستشعرين قرب الله؛ فهذه بداية الهداية وليس نهايتها.

نسأل الله تعالى لك التوفيق والسعادة، ونسعد بتواصلك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً