الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أتحكم في حديث النفس وأتخلص من الوسواس؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا على موقعكم الرائع وجهودكم البارزة، فهو مرجعي الأول.

سؤالي: أنا كنت بنتا وحيدة مع أولاد، وكنت أعاني من الوحدة، فاعتدت أن أحدث نفسي وأتخيل أفرادا أتكلم معهم، وربما أحداثا، وكبرت وقدر الله أن أبقى وحيدة في معظم فترات حياتي، وأنا لا أفضل الخلطة إلا التي تعود علي بالنفع، فلذلك صديقاتي قليلات.

الآن لا أستطيع التخلص من حديث النفس هذا، أنا أشغل وقتي بالعلم النافع والتعليم، لكن يبقى وقت أقضيه وحدي، فإذا مثلا تعرضت لموقف ضايقني أظل أفكر فيه وأتخيل أنني أحاور أو أغير الأحداث مما يجعلني لا أتخطى الموقف بسهولة؛ لأني أظل أحدث نفسي به ولا أستطيع التحكم في عقلي.

الأمر الآخر وهو الأهم: أنني اعتدت تخيل أحد معي في كل مكان، فإذا قمت أصلي أتخيل أحدا يصلي معي، وإذا قرأت القرآن أتخيل أحدا يستمع لي، وهذا يصيبني بوسواس الرياء والعجب، رغم أني أحرص على عدم إظهار أعمالي في الحقيقة، لكن وأنا وحدي أجد هذه المشكلة، أيضا أفقد تركيزي في الآيات والأذكار بسرعة؛ لأن عقلي الباطن يسبقني ولا يعطيني وقتا كافيا للتدبر.

أنا الحمد لله ظروفي طيبة، ولا أعاني من شعور بنقص لعدم زواجي، فالأمر عندي ليس أساسيا، لكن ابتليت في أهلي وإخواني بابتلاءات شديدة، وكنت متعلقة بهم جدا فتأثر عقلي.

أشعر أن تركيزي ضعيف، رغم أن تحصيلي الدراسي مازال ممتازا -بفضل الله- ومتميزة عمن حولي، لكن أشعر أن عقلي الباطن هو الذي يحفظ ويسترجع، وعقلي الحاضر في ذهول وضعيف التركيز.

أرجو أن أكون استطعت توضيح حالتي.

أريد علاجا لها حتى أتلذذ بالعبادة والقرب من الله، وأتخلص من وسواس النية، وأيضا حتى أنسى آلامي، فمؤخرا أصابني أذى شديد من أناس كنت أتأمل فيهم خيرا وصلاحا، وعانيت من عدم قدرتي تجاوز الأزمة بسبب حديث النفس وتخيل الأحداث.

أحياناً أشعر أنني بحاجة لعلاج نفسي، لكن أنا الحمد لله قريبة من ربي، وعقلي ناضج، وأحل مشاكل الآخرين، وتجاوزت أزمات كثيرة في حياتي، لكن ربما كبرت، وربما استهلكني الزمن والمسئوليات والابتلاءات!

جزاكم الله خيراً.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ رحاب حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحباً بك -أختنا الكريمة-، وردا على استشارتك أقول:
هذه الحياة الدنيا كلها ابتلاء وامتحان، فمن الناس من يبتلى في نفسه بمرض، ومنهم من يبتلى بفقد والديه فينشأ يتيما، ومنهم من يبتلى بالفقر، ومنهم بقسوة تعامل من حوله، وهكذا وكل ذلك فيه خير للعبد، وإن ظن العبد غير ذلك فأقدار الله كلها خير، والفائز من رضي بقضاء الله وقدره وصبر على البلاء، يقول ربنا جل في علاه: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، وقال عليه الصلاة والسلام: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)، ولما خلق الله القلم قال له اكتب قال وما أكتب قال: (اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس) والكيس الفطنة.

يقول شَدَّاد بن أَوْس: يَا أَيهَا النَّاس لَا تتهموا الله فِي قَضَائِهِ فَإِن الله لَا يَبْغِي على مُؤمن فَإِذا نزل بأحدكم شَيْء مِمَّا يحب فليحمد الله وَإِذا نزل بِهِ شَيْء يكره فليصبر وليحتسب فَإِن الله عِنْده حسن الثَّوَاب.

اعتيادك على الوحدة فيه خير كثير لك؛ لأنها تبعدك عما لا ينفع، وعن الغيبة، والنميمة، والذي ينبغي عليك أن تستشعري بهذه النعمة، وأن تستثمريها استثمارا جيدا، وتبتعدي عن سلبياتها.

حديث النفس من الأمور الطبيعية، وما منا من أحد إلا ويحدث نفسه، ولكن ينبغي أن تستغلي ذلك في محاسبة النفس والتعرف على عيوبها وإصلاحها وسوقها إلى الله من خلال زجرها عن الوقوع فيما يسخط الله، وقد كان كبار الصحابة -رضوان الله عليهم- يخاطبون أنفسهم ويحاسبونها.

كونك تتخيلين أفرادا تتكلمين معهم مجرد افتراض وليس له حقيقة في الوجود ويكفي أنك تعرفين أنه لا وجود لهؤلاء الأشخاص، فعليك أن تحتقري مثل هذه الفكر غير المنطقية، بل لا بد أن تقنعي نفسك أن هذه أفكار في غاية السخف، ومن هنا سوف تبدأ هذه الأفكار بالاختفاء.

كونك لا تفضلين الخلطة أمر جيد كما ذكرت لك آنفا، وتركيزك على الخلطة التي تعود عليك بالنفع هذا هو عين العقل، ولكن لا مانع من توسيع هذه الدائرة، فذلك أمر ممكن.

يقول العلامة الحميدي شيخ البخاري -رحمه الله-:
لقاء الناس ليس يفيد شيئا سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح حال

من المفرح في استشارتك أنك تشغلين وقتك بطلب العلم والتعليم، فهذا من أنفع ما تنفق فيه الأعمار، يقول تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، يقول أهل التفسير في معنى هذه الآية: ( لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى توحيد الله، وعبادته وحده، وعمل صالحًا، وقال: إنني من المسلمين المنقادين لأمر الله وشرعه، وفي الآية حث على الدعوة إلى الله سبحانه، وبيان فضل العلماء الداعين إليه على بصيرة، وَفْق ما جاء عن رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

لإشغال ذلك الوقت الذي تقضينه في الحديث مع نفسك أقترح عليك أن تخصصي الجزء الأكبر منه بالتواصل مع صديقاتك ومناقشاتك العلمية معهن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبهذه الطريقة ستجدين وتقلين من الوقت المتبقي معك وهذا الوقت اجعليه لتلاوة القرآن، ومراجعة المحفوظات، وصلاة النوافل، ومحاسبة النفس.

أنصحك كذلك بأن تستعيذي بالله من الشيطان الرجيم، فورود مثل الأفكار إلى عقلك؛ لأن بعضا منها إنما هو من وساوس وخواطر الشيطان الرجيم، فإن استعذت بالله منه خنس -بإذن الله- عنك.

أكثري من تلاوة القرآن الكريم، والذكر المطلق، كالاستغفار، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحافظي على أذكار اليوم والليلة، مع تكثير الأعمال الصالحة المتنوعة، فذلك له فوائد، الأولى أنه سيكون سببا في طرد الشيطان ووساوسه، كما قال سيدنا ابن عباس -رضي الله عنهما-: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس)، والثانية أنه سيجلب إلى قلبك الراحة والسعادة والطمأنينة كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، والثالثة إنه سيجلب لك الحياة السعيدة، يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

المداومة على تخيل شخص معك في كل مكان جعلك تتخيلين أنه معك، مع أنه لا وجود له في الواقع إطلاقا، بل هذا لو أمعنت فيه النظر لوجدته أمرا سخيفا، فكيف يتخيل الإنسان ما لا وجود له، ثم يعتقد صحة وجوده، ويرتب عليه أنه يعجب بما يصدر منه من عبادات ويرائي في عمله، فهذا الكلام غير منطقي، فليس هنالك أي رياء في العمل كونه لا يوجد أناس أثناء تعبدك، فأنصحك أن تلغي هذه المفاهيم الخاطئة من عقلك وتحتقريها ولا تسترسلي معها أبدا فضلا عن أن تصدقيها، وعليك أن تستعيذي بالله من الشطان الرجيم فور ورود مثل هذه الوساوس والخواطر.

كثرة الشواغل تشتت الذهن فلا تجعليه يتفهم أو يتدبر ما يراه سواء في الصلاة أو خارجها، وما منا من أحد ويجد ما تجدين، لكن ينبغي التقليل من المشاغل التي تفقدنا التدبر، ومحاولة نسيان هذه المشكلة وعدم التركيز عليها حتى لا يتحول ذلك الأمر إلى وسواس.

تركيزك ما يزال جيدا ولولا ذلك لما كان تحصيلك العلمي قويا، لكنك ربما تضخمين بعض القضايا.

اصبري واحتسبي في كل أمورك، فالمؤمن يتقلب بين أجري الشكر والصبر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ).

لا تبالغي في قضية التلذذ بالطاعات والتدبر للآيات وكل ما يقرأ في الكتب قد يكون أمرا نادرا وكرامة من الله لبعض الناس، ولا يلزم أن ينطبق على الجميع.

هذه موجهات أسأل الله تعالى أن ينفعك بها -وإن شاء الله- لن تحتاجي لعرض قضيتك على مستشار نفسي إن عملت بما ورد سابقا.

نسعد بتواصلك، ونسأل الله لك التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً