الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أرجو تشخيص حالتي: هل ما أعانيه هو مرض نفسي؟

السؤال

السلام عليكم

أعاني منذ صغري من تشتت الانتباه وكثرة التفكير، سواء في أمور حدثت، أو في ما قد يحدث في المستقبل، وكنت أعتقد أن هذا بسبب التلفاز، وما تعلمناه من برامج الكرتون للأطفال، وكنت في صغري في سن 6 سنوات حتى 8 سنوات أسافر مع والدي بدون مشاكل، لكنني توقفت عن السفر لمدة ثم سافرت مرة أخرى في سن 11 سنة، لكن مع بعض الخوف خاصة من القيء.

سافرت في سن 12 سنة و 13 سنة، ولم أستطع تناول الطعام تقريبا طوال مدة السفر بسبب القلق، وأصبح لدي قلق من السفر.

إذا علمت أنني سوف أسافر بعد أسبوع لا تأتيني شهية للطعام، ولا مقابلة الناس، ولا عمل أي شيء، ثم عندما بلغت 15 سنة في بداية المرحلة الثانوية، أتتني فجأة أحاسيس بالخوف من كل شيء.

أمضيت مدة أسبوعين تقريبا أتناول الطعام بكمية قليلة جدا، وأظل نائما بعيدا عن الجميع، ولا أريد سماع صوت أحد، ولا الاقتراب من الناس، ثم تعافيت -والحمد لله- بعد الضغط على نفسي لتناول الطعام والخروج من المنزل.

ظل هناك خوف يلازمني تقريبا عند الإقدام على أي شيء جديد، خاصة المتعلق بالدراسة، حتى دخلت الصف الثالث الثانوي، وزاد الخوف جدا حتى أنني وصلت إلى مراحل أنني أريد ترك الدراسة والتعليم بالكامل، وكنت أمر بقلق شديد أحيانا خاصة في آخر أيام هذه السنة الدراسية، ثم تخطيت هذه المرحلة والحمد لله، وأصبحت مضطرا للسفر لمدينة أخرى تبعد عن مدينتي مسافة طويلة، وزاد عندي القلق المستمر مع خوف السفر بسبب الدراسة.

بعد مضي عام أحس وكأن الحال يتدهور، فلم أعد أستطيع تحمل أقل مشكلة! هل أنا مريض نفسي؟

ماذا أفعل؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الله حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أرحب بك في الشبكة الإسلامية.

لقد قمتَ بسرد حالتك ووضحتها بصورة جليَّة جدًّا، وفي حالتك ما نسميه بالتاريخ المرضي يُعتبر مثاليًا، أي: التسلسل في سرد مراحل المخاوف لديك واضح وجليّ، وبَدَتْ وبدأت لديك المخاوف في الصغر -كما تفضلتَ- وبعد ذلك استمرت في مرحلة اليفاعة وما بعد البلوغ، وأنت الآن تُعاني ممَّا نُسميه بالقلق التوقعي، مع وجود شيء من المخاوف، والمسمَّى التشخيصي لحالتك هو (قلق المخاوف العام).

ليس لديك -الحمد لله- أي وساوس، فقط لديك هذا القلق المصحوب بالخوف بصورة توقُّعية، أي أنك تتوقَّع أنك سوف تتوتر، أنك سوف تخاف في أي موقف يكون فيه تغيير في نمط حياتك كالسفر وغيره. وحتى القلق المستمر حول الدراسة أيضًا هو ظاهرة من الظواهر التي تُعاني منها، وإن كان القلق مطلوبا في حالة الدراسة، لأنه هو المحرَّك الذي يُحفّز الإنسان من أجل النجاح، لكن طبعًا القلق إذا زاد عن حدِّه بالفعل قد يُعطِّل الإنسان.

حالتك بسيطة بالرغم من أنها مكتسبة منذ الصغر، ويُعرف تمامًا أن الذين يُعانون من المخاوف والقلق في مراحل الطفولة الأولى سبعون بالمائة منهم سوف يُصابون بقلق المخاوف مع شيء من الوساوس في المستقبل، وإن شاء الله حالتك ليست مرضية، نحن نعتبرها ظاهرة مرتبطة بالبناء النفسي لشخصيتك.

أيها -الفاضل الكريم-: كل الذي تحتاجه هو أن تعرف أن القلق طاقة إنسانية مطلوبة حتى ينجح الإنسان، لأن القلق يُحفّز الدافعية، يُحفّز الإنتاجية، يُحفّز الإقدام على فعل الأشياء بصورة جيدة وصحيحة، وكذلك الخوف، الذي لا يخاف لا يتحوّط، لكن هذه الطاقات النفسية -كما ذكرتُ لك- حين تزيد عن المعدَّل الطبيعي المتوازن يتحوّل الأمر إلى ضدِّه، أي أنها تكون معطِّلة للإنسان.

الذي أريده منك هو أن تسعى ألَّا تقلق، بكل بساطة، يجب أن تُحلِّل هذه الأمور، وتسأل نفسك (لماذا أقلق بهذه الصورة؟ لماذا لا أحوّل قلقي إلى قلق طبيعي، أنا بخير، أنا في بدايات سِنِّ الشباب، أنا لديَّ طاقات، كل المطلوب منّي هو أن أحسن إدارة وقتي، وأرتِّب نفسي لكي أحوِّلَ هذا القلق من قلق سلبي إلى قلق إيجابي).

إذًا هذا النوع من الإسقاطات على الذات -كما نُسمِّيه- مهمٌّ جدًّا، أي أن تحاور نفسك على هذا النمط وبهذه الكيفية، -وإن شاء الله تعالى- هذا يُوصلك إلى قناعات ليحدث لك نوعا من التكيُّف مع هذا القلق، وتستفيد منه، وتستثمره بصورة صحيحة.

أفضل طُرق استثمارات القلق هو تنظيم الوقت، الإنسان إذا نظَّم وقته يستطيع أن يستفيد من قلقه، أولاً: تبدأ بالنوم الليلي المبكّر، هذا مهمٌّ جدًّا، هذه أوَّلُ خطوات تنظيم الوقت الصحيحة، وتتجنَّب السهر، حين تنام مبكِّرًا تعطي فرصة لخلايا الجسم والدماغ، ليحدث فيها نوع من التعافي، نوع من الترميم التام، ثمَّ تستيقظ مبكّرًا، تُصلّي صلاة الفجر، وبعد الصلاة وبعد الاستحمام وتتناول الشاي -مثلا- تبدأ تذاكر، هذا وقت مهمٌّ جدًّا، وقت مبارك جدًّا، الصباح وقت فيه استيعاب شديد جدًّا، والبكور فيه بركة كثيرة كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (بورك لأمتي في بكورها) ودعا فقال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها).

أرجو أن تقتنص هذه الفرصة العظيمة، وتستفيد من الصباح، من البكور، المذاكرة لمدة ساعة واحدة في هذا الوقت تُعادل على الأقل ساعتين أو ثلاثة في بقية اليوم، والذي يبدأ صباحه ويومه بهذه الكيفية سوف يُلاحظ انسيابًا إيجابيًا جدًّا في كل الأفعال التي يقوم بها في بقية اليوم، وتكون المشاعر طيبة وجميلة وإيجابية، وكذلك الأفكار.

طبعًا تنظيم الوقت يقتضي أن تُخصص وقتًا للرياضة، فهي مهمَّة جدًّا، الرياضة تقوّي النفوس كما تُقوّي الأجسام، ويجب أن تخصص وقتًا للعبادة، هذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا، خاصة الصلاة مع الجماعة في المسجد، ويجب أن يكون هناك تخصيص وقت للترويح عن النفس مع الصالحين من الأصدقاء، والجلوس مع الأسرة، وينبغي أن تكون هناك قراءات واطلاعات وتثقيف النفس بالأشياء الجميلة والإبداعية.

كل هذا فيه خير لك، فأرجو أن تضع نفسك في هذه الأُطر الجميلة، وحدِّد أهدافك، لتفكّر بصورة إيجابية في المستقبل، الذي يكون له أهداف ويضع الآليات التي توصله إليها لا بد أنه سوف ينجز إنجازات عظيمة.

أيها -الفاضل الكريم-: حتى تكتمل الوصفة العلاجية أريد أن أصف لك أحد الأدوية الممتازة والبسيطة جدًّا، وإنِ استطعت أن تذهب إلى طبيب نفسي فهذا أيضًا أمر جيد، يمكن أن يختار الطبيب لك الدواء الذي يراه مناسبًا. من ناحيتي: أرى أن (سيرترالين) والذي يُسمَّى (لوسترال) أو (مودابكس) أو (زولفت) سيكون دواءً فاعلاً وجيدًا، وبجانب ذلك فهو غير إدماني وغير تعودي، وفوائده العلاجية كثيرة.

تبدأ بتناول السيرترالين بجرعة نصف حبة -أي خمسة وعشرين مليجرامًا، من الحبة التي تحتوي على عشرة مليجرام- تتناولها يوميًا لمدة عشرة أيام، ثم اجعلها حبة واحدة -أي خمسين مليجرامًا- لمدة شهرٍ، بعد ذلك اجعلها حبتين -أي مائة مليجرام- يوميًا لمدة شهرين، ثم اجعلها حبة واحدة يوميًا لمدة شهرين آخرين، ثم اجعلها نصف حبة -أي خمسة وعشرين مليجرامًا- يوميًا لمدة أسبوعين، ثم خمسة وعشرين مليجرامًا يومًا بعد يومٍ لمدة أسبوعين آخرين، ثم توقف عن تناول السيرترالين.

إذًا -أيها الفاضل الكريم- هذه هي التوجيهات الإرشادية التي نسأل الله تعالى أن ينفعك بها، وعليك تطبيقها، ومحاولة اتباعها، وإن شاء الله تعالى يأتيك منها خير كثير.

بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، وبالله التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً