الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهات وجوابها حول كون الأصل في الأشياء الإباحة

السؤال

قيل لي مرة إن القاعدة الفقهية التي تقول: الأصل في الأمور الإباحة. لا تصح، لأنها تتنافى مع الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم. وذلك لأن الخوض فيما سكت عنه الشرع بدون دليل من قرآن أو سنة هو فتنة عليه. ولهذا فان الأمور المباحة بموجب هذا القاعدة التي ابتدعها العلماء لا تتفق مع الآية، لأن الإباحة إذا تعلقت فيمن لم يرد عليه نص من كتاب أو سنة فإنها تتناقض شكلا ومضمونا مع الآية المذكورة. ولهذا ذهب من قال لي هذا القول أن هذا السكوت إنما هو خوف الفتنة، وما دام الأمر يؤول إلى الفتنة فلا ينفك إلا أن يكون محرما على المسلم وكل ما حرم على المسلم إتيانه فهو حرام بالاجتهاد وليس بالآية. وهكذا برر قوله أنه ينبغي أن يكون الأصل في الأمور التحريم وأن يحرم كل شيء إلا ما أحله الله ورسوله بشهادة نص آية أو حديث، وأما ما لم ينص عليه دليل آية أو حديث فينبغي أن يوكل إلى حكمه الأصلي وهو التحريم وتركه عملا بالآية المذكورة. وهكذا يقال إن التحريم لا يجوز إلا بثلاث وسائل: أولا تحريم بدليل من آية أو حديث، ثانيا تحريم بالقياس وهو تحريم العلماء، وثالثا تحريم اجتهاد والأخير هو نوع تحريم يجتهد فيه العالم أن يحرم باجتهاده الشخص إن لم يكن الأمر المتعلق بالحكم عليه مما قام عليه دليل من السنة أو الكتاب، وأيضا لم يف القياس بغرض في الحكم عليه فينبغي الحكم عليه بالاجتهاد، فإن لم يف الاجتهاد بحكم مقنع يرضي العموم من الناس وجب تركه للأصل وهو أن تقام عليه الحرمة خوفا أن يكون فتنة. فان كان هذا الأمر الذي لم يوجد له حكم عند الله حلال حرم فضله بتحريمه في الأصل، وإن كان حكمه عند الله حرام فقد نجى منه المسلم بتحريمه في الأصل.
هذا القول من عند بعض المسلمين فما هو ردكم عليهم ؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ كما ذهب إليه الجمهور، وهو الراجح، وعند بعضهم أن الأصل التوقف، وقيل الأصل الحرمة.

ودليل قول الجمهور قول الله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {الجاثية:13}.

وقوله تعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {الأنعام:145}

وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً {البقرة:29}

ومن الأحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم : ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن نسيا. رواه البيهقي.

وبناء على قول الجمهور فكل ما خلق في هذا الكون مسخرٌ للإنسان ومباح له الاستمتاع به، ما لم يكن فيه نهي أو ضرر .

وأما الآية المذكورة فلا تعارض هذا ولا تفيد أن الأصل في الأشياء الحرمة، ولا التقعيد الذي ذكرت، وإنما تفيد النهي عن الأسئلة التي لا فائدة منها وقد تسيء السائل إن ظهر له جوابها أو شق عليه.

قال ابن كثير في تفسيره: هذا تأديب من الله لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا { عن أشياء } مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها .... عن أنس بن مالك قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين. فقال رجل: من أبي؟ قال: "فلان"، فنزلت هذه الآية: { لا تسألوا عن أشياء }. رواه البخاري ومسلم.

وعن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. حتى فرغ من الآية كلها. رواه البخاري ....اهـ.

وقال الطبري: إذا بدا لكم حقيقة ما تسألون عنه ساءكم إبداؤه، كالذي سأل من أبي؟ فقيل له: أبوك فلان، أو الذي سأل أين أبي؟ فقيل له: في النار، أو الذي قال: أفي كل عام يا رسول الله، قال: لا، ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. فذلك مما روي في سبب نزول تلك الآية.

ومثله أسئلة الاستهزاء والتعنت، كما قال ابن حجر.

وقيل إن المقصود بقوله تعالى : { لا تسألوا عن أشيآء } هو لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق كما جاء في الحديث : أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته. متفق عليه.

فتلك الأسئلة التي لا تفيد المسلم وربما يسوؤه جوابها، وأسئلة الاستهزاء والتعنت كل ذلك مما يشمله النهي في الآية. وأما سؤال أهل العلم عن أمور الدين وأهل الخبرة عما يفيد في الدنيا فغير داخل في ذلك النهي، كما قال الشوكاني وابن العربي.

ويدل لهذا قول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. (النحل: 43)

وفي الحديث: إنما شفاء العي السؤال. رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني .

وأما الفتنة التي ذكرت فإن كنت تعني بها ما قد يحصل من استياء البعض إن سأل عن شيء ثم حرم فهذا لا يفيد أن الأصل في الأشياء الحرمة بل هو حجة على أن الأصل الإباحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها . رواه الدارقطني وغيره.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه. رواه الترمذي وحسنه الألباني.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني