الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يجوز اعتقاد أن معاوية باغ، مع إسلامه، وإيمانه؟

السؤال

قرأت في سير أعلام النبلاء في ترجمة الفأفأء، قول الذهبي- رحمه الله، ورضي الله عنه-: وكان الناس في الصدر الأول بعد وقعة صفين على أقسام :
أهل سنة، وهم أولو العلم، وهم محبون للصحابة، كافون عن الخوض فيما شجر بينهم، كسعد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأمم.
ثم شيعة يتوالون، وينالون ممن حاربوا عليًّا، ويقولون: إنهم مسلمون، بغاة، ظلمة.
ثم نواصب: وهم الذين حاربوا عليًّا يوم صفين، ويقرون بإسلام علي وسابقيه، ويقولون: خذل الخليفة عثمان.
1-معاوية- رضي الله عنه- ممن حارب في صفين، فهل هو ناصبي؟
2-الشيعة ينالون ممن حاربوا عليًّا، ويقولون: إنهم بغاة، ظلمة، وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الجنة، وهم يدعونه إلى النار. رواه البخاري.
فهل جائز أن أعتقد أن معاوية باغ، مع إسلامه، وإيمانه على كلامه عليه الصلاة والسلام؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد أراد الذهبي بهذا الكلام التفريق بين عقائد الشيعة، والنواصب في الصدر الأول، وبين عقائدهم في زمانه -رحمه الله- ولذلك قال في بقية كلامه المذكور: فما علمت في ذلك الزمان شيعيًّا كفر معاوية وحزبه، ولا ناصبيًّا كفر عليًّا وحزبه، بل دخلوا في سب وبغض، ثم صار اليوم شيعة زماننا يكفرون الصحابة، ويتبرؤون منهم جهلًا وعدوانًا، ويتعدون إلى الصديق - قاتلهم الله - وأما نواصب وقتنا فقليل، وما علمت فيهم من يكفر عليًّا، ولا صحابيًّا. اهـ.

ثم إننا ننبه على أمر مهم، وهو أن خلاف معاوية لعلي ـ رضي الله عنهما ـ لم يكن منازعة له في الخلافة، ولا إنكارًا لفضله ومكانته، واستحقاقه إياها! وإنما حصل الخلاف في تقديم الاقتصاص من قتلة عثمان، أو تأخيره.

قال ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة: من اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين معاوية، وعلي -رضي الله عنهما- من الحروب لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة؛ للإجماع على أحقيتها لعلي كما مر، فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم؛ لكون معاوية ابن عمه، فامتنع علي ظنًّا منه أن تسليمهم إليهم على الفور مع كثرة عشائرهم، واختلاطهم بعسكر علي يؤدي إلى اضطراب، وتزلزل في أمر الخلافة التي بها انتظام كلمة أهل الإسلام، سيما وهي في ابتدائها لم يستحكم الأمر فيها. اهـ.

وقال ابن حجر العسقلاني: ذكر يحيى بن سليمان الجعفي -أحد شيوخ البخاري- في كتاب (صفين) في تأليفه بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: «أنت تنازع عليًّا في الخلافة، أو أنت مثله؟» قال: «لا، وإني لأعلم أنه أفضل مني، وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلومًا، وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأتوا عليًّا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان» فأتوه فكلموه فقال: «يدخل في البيعة، ويحاكمهم إليّ»، فامتنع معاوية، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين، وسار معاوية حتى نزل هناك. اهـ.

وأما حديث: ويح عمار تقتله الفئة الباغية. فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كل من كان باغيًا، أو ظالمًا، أو معتديًا، أو مرتكبًا ما هو ذنب، فهو قسمان: متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد: كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور، واعتقد الآخر تحريمها، فهؤلاء المتأولون المجتهدون، غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة:286)، وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء. وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان أنهما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم، مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم، والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر، لم يكن بذلك ملومًا، ولا مانعًا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثمًا وظلمًا، والإصرار عليه فسقًا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرًا، فالبغي هو من هذا الباب، أما إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولًا، ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه على الحق، وإن كان مخطئًا في اعتقاده: لم تكن تسميته باغيًا موجبة لإثمه، فضلًا عن أن توجب فسقه، والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين؛ يقولون: مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم؛ لا عقوبة لهم؛ بل للمنع من العدوان، ويقولون: إنهم باقون على العدالة؛ لا يفسقون، ويقولون: هم كغير المكلف، كما يمنع الصبي، والمجنون، والناسي، والمغمى عليه، والنائم من العدوان أن لا يصدر منهم. اهـ.

وقال أيضًا -رحمه الله-: ثبت بالنصوص الصحيحة أن عثمان، وعليًّا، وطلحة، والزبير، وعائشة من أهل الجنة ... وأبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان هم من الصحابة، ولهم فضائل ومحاسن، وما يحكى عنهم كثير منه كذب؛ والصدق منه إن كانوا فيه مجتهدين: فالمجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر، وخطؤه يغفر له، وإن قدر أن لهم ذنوبًا، فالذنوب لا توجب دخول النار مطلقًا إلا إذا انتفت الأسباب المانعة من ذلك، وهي عشرة، منها: التوبة، ومنها: الاستغفار، ومنها: الحسنات الماحية، ومنها: المصائب المكفرة، ومنها: شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها: شفاعة غيره، ومنها: دعاء المؤمنين، ومنها: ما يهدى للميت من الثواب، والصدقة، والعتق، ومنها: فتنة القبر، ومنها: أهوال القيامة ... اهـ.

والخلاصة أن اعتقاد خطأ معاوية في اجتهاده، وتسمية جيشه بغاة، لا يستلزم الحكم بإثمهم فضلًا عما فوق ذلك، كما سبق من قول شيخ الإسلام: إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولًا، ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئًا في اعتقاده: لم تكن تسميته باغيًا موجبة لإثمه. اهـ.

ونختم بكلام الذهبي في منهاج الاعتدال حيث قال: روى سفيان عن جعفر بن محمد، عن أبيه الباقر قال: سمع علي يوم الجمل، أو يوم صفين رجلًا يغلو في القول، فقال: لا تقولوا إلا خيرًا، إنما هم قوم زعموا أنا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا، فقاتلناهم. وعن مكحول أن أصحاب علي رضي الله عنه سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية: ما هم؟ قال: هم المؤمنون. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني