الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ذهاب المؤمنين لسوق الجنة هل هو للرجال فقط، وهل للمرأة قصور خاصة، ومسائل أخر

السؤال

أتمنى أن تفتحوا صدوركم لما لديّ، فمشكلتي كبيرة، وستحتاج وصفاً مطولاً.
أنا فتاة ولدت لقيطة، وقام بتربيتي أحد الرجال الصالحين -نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً- وبعدما بلغت أعطيت طابقاً أعيش فيه بمنزله، وكان يطمئن على حالي دائماً، ويشتري لي الهدايا، وينصحني، ويعلمني، فكان نعم الأب لي، كما كان رجلاً متواضعاً، معطاءً، يخاف الله، وكان صادق الرؤى، مستجاب الدعاء -بمشيئة الله- ولطالما حذرنا من أمور وحدثت بعد ذلك، أو بشرنا بأشياء، فكانت.
وقد توفي -رحمه الله- كما نسأله سبحانه أن يكتبه عنده شهيداً، فقد قتل في سبيل الله تعالى، وسجن قبلها لأعوام طويلة، وبعد وفاته أصابتني هواجس بأني لن أراه مجدداً في الجنة؛ لأنه ليس بأبي حقاً، وقد سألت أحد الدعاة عن هذا، فقال لي إنه لو كان شهيداً لن أراه، إذ أنني لست من أهله، فقلت له: إنني أتمنى لقياه في الجنة وحسب، وأنا أعلم أنه ما من حجاب فيها؛ لأنه تكليف، والجنة ليست داراً للتكاليف، فأخبرني أن الله سيحجب بيني وبينه، دون أن أحتجب بخمار أو نقاب، لأنه ليس بأبي، ولا زوجي -وأنا متزوجة فلا يمكن بحال أن أتزوج منه في الجنة- ... إلى آخر ذلك، وعندما قلت له إني سمعت برؤية النساء للرسول صلى الله عليه وسلم، قال لي إنه بمثابة الأب لجميع المؤمنين، وأن هذا هو السبب في إباحة نظر نساء الجنة له (عليه صلوات ربي)، وكذا زوجاته؛ فإنهن أمهات لكافة المؤمنين، وبما أنه أب للجميع، فلا يحرم عليهم رؤية بناته، مع أنه لا يوجد دليل على أن الرجال يرون بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وأراني فتوى للشيخ محمد المنجد حيث قال فيها: إن النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة الأب لجميع المؤمنات، لذا يجوز لهن رؤيته، وعدا ذلك فهن لا يختلطن بالرجال، ويكتفين بالتنزه في القصور، والتنعم بها مع أزواجهن، وأهلهن وحتى إن خرجن للروضات لا يختلطن بالرجال، ولا يرى بعضهم بعضاً، حتى إن النساء لن يرين الصحابة، وبقية الأنبياء، والصالحين، وأولياء الله، والصديقين الخ، وسيرين فقط الصالحات من النساء، والصديقات، وكذا الرجال لن يروا الصحابيات، ولا نساء الصحابة أبداً، وأن الله لن يبيح للرجال والنساء رؤية بعضهم البعض، وقد جعل الله من يقبل برؤية الناس لزوجته ديوثاً. فكيف يقبل بهذا في الجنة! حتى لو لم يكن فيها شهوة لغير الأزواج، ولا نظرة محرمة.
فأرجو منكم قولاً فصلاً في هذا الأمر؛ لأنني تعبت من التفكير فيه، وأعلم أن المرء عليه الانشغال بدخول الجنة وحسب، لكن الله أعلم بمدى الألم في نفسي، حتى أصبح الأمر يشكل لي هاجساً.
وفي اليوم التالي لحديثي مع هذا الشيخ، أتاني ذاك الرجل في رؤيا، وكان في غاية الحسن، وكان يتقدمه ويمسك بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعرف وصفه تماماً، حتى إن بدني قد اقشعر من هول الموقف، وكان معهما طفلان أعرفهما، فبشرني بأن ذاك الرجل في نعيم عظيم، وأني إن تمسكت بالقرآن، والسنة سألحق به -إن شاء الله- وألتقيه في الجنة، كما بشرني ببعض الأمور التي جرت بعد ذلك بفضل الله، كما قيلت لي تماماً، فبرغم تحقق بعض ما جاء في الرؤيا، إلا أنني أخشى أن تكون مصادفة، وليس الأمر أكثر من حديث نفس، بسبب تفكيري في الأمر، خاصة وأن الرؤيا قد تكررت ثلاث مرات، مع اختلاف بعض ما يقال فيها، وكذلك المبشرات التي كانت تصدق في كل مرة.
وأيضاً، لقد مات لذاك الرجل طفل، وطفلة -لم يبلغا- وهما ولداه من الرضاع، وكانا من رأيتهما في منامي.
فهل ألتقيهما في الجنة -إن كنت من أهلها- أم إن الصبي يكبر فيها فلا يجوز لي رؤيته هو كذلك؟
أيضاً بالنسبة للحديث: إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم، وثيابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا، وجمالا. فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا، وجمالا.
فمعناه أن الرجال وحدهم يذهبون للسوق.
فهل النساء محرومات منه؟
وهل هذا دليل آخر على أنهن لا يلتقين بالمؤمنين، والصحابة في أي مكان، ولا يرين ربهن؟
وسؤال أخير: هل معنى: "إن للعَبدِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلا، لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمِ الْمُؤْمِنُونَ لا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا".
فهل المقصود هنا أن زوجاته لا يرين بعضهن البعض؟ وهل هذا يعني أن المرأة لا قصر لها في الجنة فتقيم في جزء من قصر زوجها؟ أم إن المقصود أن أهل الرجل -عموماً- لا يرون بعضهم البعض إن لم يكونوا بمحارم؟ وأن المؤمنين على العموم لا يرون بعضهم البعض إلا إن كان بينهم صلة؟
وهل ما ذكرتموه في الفتوى (101988) يشير لذلك؟
أتمنى إجابتي، وأعتذر لكم بشدة عن الإطالة.
بارك الله فيكم، وجزاكم عنا كل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلم نطلع بعد البحث على ما يمنع رؤية المتحابين في الله من الرجال والنساء في الجنة لبعضهم، ولا على ما يثبت حصولها.
وأما ما في صحيح مسلم، وغيره من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم، وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا. فظاهر هذا الحديث أن الذين يذهبون إلى السوق هم الرجال وحدهم دون النساء؛ وذلك لأن الحديث ذكر أنهم يرجعون من السوق إلى أهليهم، يعني زوجاتهم، فدل رجوعهم إليهن على أنهن لم يكن يرافقنهم.
ويدل على ذلك أيضا ما ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي، قال: وما في هذا الحديث من (ازدياد وجوههم حسنا وجمالا)، لا يقتضي انحصار ذلك في الريح، فإن أزواجهم قد ازدادوا حسنا وجمالا ولم يشركوهم في الريح... وعلى هذا فيمكن أن يكون نساؤهم المؤمنات رأين الله في منازلهن في الجنة، رؤية اقتضت زيادة الحسن والجمال إذا كان السبب هو الرؤية كما جاء مفسرا في أحاديث أخر. كما أنهم في الدنيا كان الرجال يروحون إلى المساجد، فيتوجهون إلى الله هنالك، والنساء في بيوتهن يتوجهن إلى الله بصلاة الظهر، والرجال يزدادون نورا في الدنيا بهذه الصلاة، وكذلك النساء يزددن نورا بصلاتهن... اهـ.
وأما ما يتعلق بالمخالطة بين نساء المؤمن في الجنة: فقد وردت الأدلة في أن المؤمن في الجنة يكون له أهلون لا يرى بعضهم بعضا، ففي صحيح مسلم، وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضا. ورواه أحمد، ومسلم، والترمذي عن أبي موسى -رحمهم الله -بلفظ: في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلا، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن.

قال صاحب دليل الفالحين، شرح رياض الصالحين: فلا يرى بعضهم بعضا، إما لمزيد سعتها، وكمال تباعد ما بينهم، وإما بستر ذلك عن الآخرين لحكمة تقتضيه. اهـ.
وأما عن كون المرأة لا قصر لها: فإنا لم نجد نصا في انفراد النساء بقصور عن أزواجهن، ومن المعلوم أن كمال متعة المرأة تكون باجتماعها بزوجها، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ {الطور:21}.
وقال في الآية الأخرى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ {الزخرف:70}. وقال في دعاء الملائكة للمؤمنين: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {غافر:8}. وقال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ {الرعد:22-23}.
قال ابن كثير في تفسيره: أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء، والأهلين، والأبناء ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، امتنانًا من الله، وإحسانًا من غير تنقيص للأعلى عن درجته، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. انتهى.
وجاء في تفسير القرطبي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَدْخُلُ الرَّجُلُ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَبِي، وَجَدِّي، وَأُمِّي؟ وَأَيْنَ وَلَدِي، وَوَلَدُ وَلَدِي؟ وَأَيْنَ زَوْجَاتِي؟ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا كَعَمَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ كُنْتُ أَعْمَلُ لِي، وَلَهُمْ، فَيُقَالُ: أَدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ تَلَا: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ـ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ـ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: والَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ {الطور: 21}. انتهى.
وروى البيهقي في سننه، عن عمرو بن مرة قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ. قال: قال ابن عباس -رضي الله عنه-: المؤمن يلحق به ذريته ليقر الله بهم عينه، وإن كانوا دونه من العمل. انتهى. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِين. قال : يخبر تعالى عن فضله، وكرمه، وامتنانه، ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم بالإيمان، يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك. اهـ.
ونقل ابن القيم في حادي الأرواح، عن ابن عباس حديثاً موقوفاً، ومرفوعاً قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه، وزوجته، وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، أو عملك، فيقول: يا رب قد عملت لي، ولهم، فيؤمر بالإلحاق بهم، ثم تلا ابن عباس: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. اهـ.
وننصحك بالاهتمام بالأعمال المفضية لدخول الجنة، ولن تجدي هناك أي قلق، ولا أي مكدر.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني