الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إيضاح مسألة تفضيل من بعد الصحابة على بعض الصحابة

السؤال

أحسن الله إليكم. كثير من المسلمين سيدخل الجنة دون أن يدخل النار.
هل من الممكن أن يدخل أحد الصحابة -رضي الله عنهم- النار، ثم يخرج منها، ويدخل الجنة؟
وإذا كان هذا ممكنا. فهل يكون المسلم الذي لا يدخل النار، أفضل من الصحابي الذي يدخل النار ثم يخرج؟
نحن نعلم أنه لا أحد أفضل من الصحابة في هذه الأمة، إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
فكيف يكون الرد على هذه الشبهة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإننا ننبهك أولا أنه ينبغي للمسلم أن يشتغل بالسؤال عما ينبني عليه عمل، وأن لا يضيع وقته وجهده في تتبع الشبهات وأسئلة الافتراضات، فذلك مضيعة للوقت، وفيه خطر على من لم ترسخ قدمه في العلم والإيمان.

وبخصوص ما سألت عنه، فقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على أن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- قد يلج النار -ويخرج منها، كعموم عصاة الموحدين-، كما في الفتوى رقم: 58874.

وأما قضية تفضيل الصحابة على من بعدهم: فجمهور العلماء على أن كل واحد من الصحابة أفضل عند الله من كل واحد ممن جاء بعدهم، ومحل هذا النزاع عند بعض العلماء إنما هو فيمن لم يحصل له من الصحبة إلا مجرد المشاهدة للنبي صلى الله عليه وسلم ونحوها، وأما من حصل له من الصحابة الذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، والسبق إليه بالهجرة، أو النصرة فهو أفضل مطلقا بلا إشكال.

قال ابن حجر في شرح حديث: خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. متفق عليه: واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ محل بحث، وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البر، والذي يظهر أن من قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئا من ماله بسببه، لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنا من كان، وأما من لم يقع له ذلك، فهو محل البحث. والأصل في ذلك قوله تعالى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ... الآية.

واحتج ابن عبد البر بحديث: مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره، وهو حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة، وأجاب عنه النووي بما حاصله أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى ابن مريم عليه السلام، ويرون في زمانه من الخير والبركة، وانتظام كلمة الإسلام ودحض كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير، وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني. والله أعلم. وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير -ثلاثا- ولن يخزي الله أمة أنا أولها، والمسيح آخرها. وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة -رفعه-: تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: بل منكم. وهو شاهد لحديث: مثل أمتي مثل المطر. واحتج ابن عبد البر أيضا بحديث عمر -رفعه-: أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال، يؤمنون بي ولم يروني. الحديث أخرجه الطيالسي وغيره، لكن إسناده ضعيف، فلا حجة فيه. وروى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله؛ أأحد خير منا، أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني. وإسناده حسن، وقد صححه الحاكم. واحتج أيضا بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم؛ لكثرة الكفار حينئذ، وصبرهم على أذاهم، وتمسكهم بدينهم. قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان، كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء.

وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرح القرطبي، لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية، نعم، والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من اتفق له الذب عنه، والسبق إليه بالهجرة أو النصرة، وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم.

ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجها على أن حديث: للعامل منهم أجر خمسين منكم، لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة؛ لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة. وأيضا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة، فلا يعدله فيها أحد. فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة.

وأما حديث أبي جمعة، فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ: قلنا: يا رسول الله؛ هل من قوم أعظم منا أجرا. الحديث أخرجه الطبراني، وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة، وقد تقدم الجواب عنه. اهـ. من فتح الباري. وانظر الفتوى رقم: 277054.

وعلى كل حال: فليس هناك تعارض بين القضيتين اللتين ذكرتهما في سؤالك، فلا مانع شرعي ولا عقلي من تفضيل من يلج النار من الصحابة ولا يخلد فيها، على من لم يدخل النار أصلا ممن بعد الصحابة.

وأما على القول بأن فيمن بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة، فإن الإشكال الذي ذكرته يسقط من أصله.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني