الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من ملك كفارة اليمين وعليه ديون، فهل يجوز له العدول للصيام؟

السؤال

أريد الكفارة عن يمين، ومعي ما يكفي إطعام عشرة مساكين، ولكن هذه النقود كنت أدخرها لسداد ديون عليّ، بالإضافة إلى التزامات مادية أخرى هامة أعلمها في الشهور القادمة؛ مثل سداد مقدم سكن، ومصروفات مدرسة ابني، فهل يجوز صيام ثلاثة أيام بدلًا من إطعام عشرة مساكين؛ لإكمال قيمة الدَّين وسداده، وسداد الالتزامات المادية؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فالالتزامات المالية المستقبلة في الشهور القادمة -كما ذكرت-، لا تبرر لك العدول من الإطعام إلى الصيام في الكفارة عند جمع من الفقهاء؛ لأن العدول إلى الصيام يكون في حق من ليس له ما يكفيه يومه وليلته، لا الشهور القادمة، وقيل: من جاز له الأخذ من الزكاة، جاز له العدول إلى الصيام بدل الإطعام، قال ابن قدامة في المغني:
وَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ مَنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ، مِقْدَارُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ؛ أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجْمَعُ تَخْيِيرًا وَتَرْتِيبًا، فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا انْتَقَلَ إلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيُعْتَبَرُ أَنْ لَا يَجِدَ فَاضِلًا عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ، قَدْرًا يُكَفِّرُ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَنَحْوُهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ جَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ لِحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ، أَجْزَأَهُ الصِّيَامُ; لِأَنَّهُ فَقِيرٌ. اهـ.

وكذا لو ضاق المال عن الجمع بين الكفارة وبين سداد الدين، وكان الدين حالًّا، جاز العدول إلى الصيام بدل الإطعام، وإن كان الدين مؤجلًا لم يحن وقت سداده بعدُ، فقد قيل: يُخرِجُ الكفارة، وقيل: يدفع المال في الدين ويعدل إلى الصيام، وهذا ما رجحه ابن قدامة في المغني، قال -رحمه الله تعالى-: فَصْلٌ: فَلَوْ مَلَكَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَالْكَفَّارَةُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ مُطَالَبًا بِالدَّيْنِ، وَجَبَ تَقْدِيمُهُ، كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَالَبًا بِالدَّيْنِ، فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ:

إحْدَاهُمَا: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ; لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا قَدْرٌ مِنْ الْمَالِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالدَّيْنِ، كَزَكَاةِ الْفِطْرِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا تَجِبُ; لِأَنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، يَجِبُ فِي الْمَالِ، فَأَسْقَطَهَا الدَّيْنُ، كَزَكَاةِ الْمَالِ، وَهَذَا أَصَحُّ; لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ؛ لِشُحِّهِ، وَحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْغَرِيمِ، وَتَفْرِيغُ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ; لِكَرَمِهِ، وَغِنَاهُ. اهـ.

وعليه؛ فيجوز لك أن تعدل إلى الصيام بدل الإطعام إذا ضاق المال عن الجمع بين سداد الديون والكفارة، وكذا لو ضاق المال عن حاجاتك الأصلية ليوم وليلة - لا المستقبلية -، وإن لم يضق المال عن الجمع بينهما، فالواجب عليك الإطعام، وليس لك أن تنتقل إلى الصيام.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني