الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يمكن التنقل عبر المكان، أو الوصول إلى آخر مكان في الكون؟

السؤال

لديّ سؤال يراودني دائمًا. لقد قلتم في الفتوى رقم: 169015: إنه من المستحيل السفر عبر الزمان، فهل يمكن التنقل عبر المكان، أو ما يعرف بالنقل الفضائي: ( teleport )؟ وهل يمكن أن يستطيع البشر في يوم ما الوصول إلى آخر مكان في الكون؟ وما هي علاقتها بالآية رقم: 33 من سورة الرحمن، والآية 13 من سورة الجاثية. وأعتذر على السؤال الطويل، وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فليس مجال هذا السؤال من تخصصنا.

وعلى أية حال؛ فالذي يمكننا قوله هو: إننا لا نتصور حصول ما يعرف بالانتقال الآنيِّ، أو الفوريِّ للإنسان بشكل عام، بسبب علمي، أو تقني مباشر، وإنما يمكن حصوله على سبيل المعجزة، أو الكرامة، كما حصل في قصة نبي الله سليمان مع عرش بلقيس، كما في قوله تعالى: قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:38-40].

وأما قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، فليس معناه: أن الإنسان يستطيع التحكم أو السيطرة في ذلك، وإنما معناه: أن الله تعالى برحمته وفضله ونعمته، ذلَّل لنا ما في السماوات وما في الأرض؛ كي ننتفع به في معايشنا، فالتسخير معناه: إيجاد الله لها على الهيئة التي تمكن الإنسان من الانتفاع بها، قال البغوي في تفسيره: معنى تسخيرها: أنه خلقها لمنافعنا، فهو مسخر لنا؛ من حيث إنا ننتفع به. اهـ. وقال الخازن في لباب التأويل: يعني: أنه تعالى خلقها ومنافعها، فهي مسخرة لنا؛ من حيث إنا ننتفع بها {جَمِيعًا مِنْهُ}، قال ابن عباس: كل ذلك رحمة منه. وقيل: كل ذلك تفضل منه، وإحسان. اهـ. وقال الرازي في مفاتيح الغيب: المعنى: لولا أن الله تعالى أوقف أجرام السماوات والأرض في مقارّها وأحيازها لما حصل الانتفاع؛ لأن بتقدير كون الأرض هابطة أو صاعدة، لم يحصل الانتفاع بها، وبتقدير كون الأرض من الذهب والفضة، أو الحديد، لم يحصل الانتفاع، وكل ذلك قد بيناه، فإن قيل: ما معنى: {منه} في قوله: {جميعًا منه}؟

قلنا: معناه: أنها واقعة موقع الحال، والمعنى: أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، وحاصلة من عنده، يعني أنه تعالى مكونها وموجدها بقدرته وحكمته، ثم مسخرها لخلقه. اهـ.

وكذلك قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن: 33]، ليس فيه إثبات سلطان للإنس والجان، وإنما المراد نفي ذلك، قال الخازن في لباب التأويل: يعني: لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة، وقهر، وغلبة، وأنى لكم ذلك؟! لأنكم حيثما توجهتم كنتم في ملكي، وسلطاني. اهـ.

على أن عامة المفسرين ينصون على أن هذا الخطاب إنما يكون في الآخرة في يوم الحشر، وهذا هو الذي يدل عليه السياق، والسباق، قال ابن كثير: أي: لا تستطيعون هربًا من أمر الله، وقدره، بل هو محيط بكم، لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام المحشر، الملائكة محدقة بالخلائق، سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب {إلا بسلطان} أي: إلا بأمر الله، {يقول الإنسان يومئذ أين المفر. كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر}، وقال تعالى: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}؛ ولهذا قال: {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} ... والمعنى على كل قول: لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة، والزبانية بإرسال اللهب من النار، والنحاس المذاب عليكم لترجعوا؛ ولهذا قال: {فلا تنتصران. فبأي آلاء ربكما تكذبان}. اهـ. وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: هذا مقول قول محذوف يدل عليه سياق الكلام السابق، واللاحق، وليس خطابًا للإنس والجن في الحياة الدنيا.

والتقدير: فنقول لكم ... والمعنى: إن قدرتم على الانفلات من هذا الموقف فافلتوا. وهذا مؤذن بالتعريض بالتخويف مما سيظهر في ذلك الموقف من العقاب لأهل التضليل. اهـ. وقال السعدي: أي: إذا جمعهم الله في موقف القيامة، أخبرهم بعجزهم، وضعفهم، وكمال سلطانه، ونفوذ مشيئته، وقدرته، فقال معجزًا لهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي: تجدون منفذًا مسلكًا تخرجون به عن ملك الله وسلطانه، {فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} أي: لا تخرجون عنه إلا بقوة، وتسلط منكم، وكمال قدرة، وأنى لهم ذلك! وهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا، ولا ضرًّا، ولا موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا؟! ففي ذلك الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا تسمع إلا همسًا، وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك، والرؤساء والمرؤوسون، والأغنياء والفقراء. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني