الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المقصود بالسماء في قوله تعالى: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء ...

السؤال

ما هو معنى قوله تعالى:"ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون".
ما المقصود بالسماء هنا؟ أهو الغلاف الجوي أم الفضاء؟ وتفسير الآية الأول ، بأنه لو أن الله فتح بابًا فظلت الملائكة تعرج فيه، ولكن الملائكة بجانبنا، وهي على الأرض مثل ملائكة كتابة الحسنات والسيئات، والكثير من الملائكة، ولا تحتاج بابًا في السماء كي تعرج فيه ، بل هي أساسًا في السماء في العنان على حسب حديث رسول الله.
وإن كان القصد بأنه لو فتح الله بابًا من السماء للمشركين ، فظلوا فيه يعرجون، أي هنا يقول الله بأنه لو فعل كذا سيحصل كذا، ولكنه لم يفتح لهم بابا من السماء صحيح؟ فهل هنالك علاقة بين الآية وبين الذين يصعدون للفضاء اليوم؟
أي هنا نستنتج من الآية أن الله لم يفتح للمشركين بابًا من السماء ليعرجوا فيه ، فكيف إذا خرج رائدو الفضاء؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فبداية ننبه على أن حمل ألفاظ القرآن والسنة على المصطلحات الحديثة في الفلك والفيزياء: أمر لا يستقيم، وخاصة إذا كانت هذه الألفاظ لا تأتي بمعنى واحد في كل النصوص، أو كانت دلالتها محل خلاف بين أهل اللغة والتفسير. وكذلك لا يستقيم حمل ألفاظ الوحي على معنى ضيق محدود ببيئته أو زمنه وعرف أهله. ومن ذلك لفظ (السماء) فله في القرآن عدة استعمالات بحسب المعنى والسياق، يمكن الاطلاع عليها في هذا المقال على موقعنا:
https://www.islamweb.net/ar/article/174469/

ثم إنه من المعروف أن العرب والمسلمين في عصر النبوة لم يكونوا يعرفون الغلاف الجوي، فضلا عن التفريق بينه وبين ما بعده، سواء سميناه فضاءً أو لم نسمه بذلك.
وأما بخصوص قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ {الحجر: 14، 15} فإجمال معناه يتضح من قول ابن الجوزي في زاد المسير: {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} أي: يصعدون، يقال: ظل يفعل كذا: إِذا فعله بالنهار. وفي المشار إِليهم بهذا الصعود قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، قاله ابن عباس، والضحاك، فالمعنى: لو كُشف عن أبصار هؤلاء فرأوا باباً مفتوحاً في السماء والملائكة تصعد فيه، لما آمنوا به. والثاني: أنهم المشركون، قاله الحسن، وقتادة، فيكون المعنى: لو وصَّلناهم إِلى صعود السماء لم يستشعروا إِلا الكفر، لعنادهم. اهـ.

ولا يشكل على القول الأول في تفسير الآية ما ذكرته السائلة من أن الملائكة (لا تحتاج لباب في السماء كي تعرج فيه، بل هي أساسا في السماء في العنان على حسب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)! لأنه الحديث الذي تشير إليه - وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم" رواه البخاري وغيره - ليس معناه أن الملائكة ملازمة للسماء أو للعنان، وإنما معناه أنها تتواجد فيها، وهذا لا يعارض كونها تنزل إلى الأرض وتصعد إلى السماء، كما قال تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ {المعارج:4}

قال القرطبي في تفسيره: (تعرج الملائكة والروح) أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. اهـ.
على أن ذكر العنان هنا معناه محتمل.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: يحتمل أن يريد بالسحاب السماء كما أطلق السماء على السحاب، ويحتمل أن يكون على حقيقته وأن بعض الملائكة إذا نزل بالوحي إلى الأرض تسمع منهم الشياطين، أو المراد الملائكة الموكلة بإنزال المطر. اهـ.

وعلى أية حال، فمقصود الآية واضح، وهو بيان حال هؤلاء الكفار، وأنهم لعنادهم لا يؤمنون ولو رأوا آية عظيمة تخضع لها كل نفس منصفة، كما قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا {الأنعام: 25}.

وقال سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ {القمر: 2}

وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ {يونس: 96، 97}.

وأما معنى السماء في قوله: {بَابًا مِنَ السَّمَاءِ} وعلاقة هذه الآية بما يراه رواد الفضاء بعد خروجهم من الغلاف الجوي للأرض، وإمكانية هذا الخروج أصلا، فهو أحد مباحث الرسالة العلمية للدكتوراة للباحثة هدى الزيدي: (الضابط اللغوي في التفسير العلمي) فيمكن الرجوع له بطوله (من ص 70 : إلى ص 74).

ومما قالت فيها: عام 1962 تناقلت وسائل الإعلام بإعجاب خبر إرسال أول إنسان إلى الفضاء ليدور حول الأرض الرائد ((غاغارين)) السوفيتي الهوية، شيوعي العقيدة. وأول ما تفوه به عندما اصبح في مداره ورأى بديع السماوات والأرض ما ترجمته الحرفية: (ماذا أرى؟ هل أنا في حلم أم سحرت عيناي؟). سبحان الله إنه يردد ما ذكره القرآن، عما سيقوله الذين لا يؤمنون بالله لو فتح عليهم باباً من السماء. وهذا تعبير قرآني علمي عن الدهشة التي تصاحب رواد الفضاء بعدم الإبصار في ظلام كوني الذي يحيط بجميع الأجرام السماوية من نجوم وكواكب وأقمار، والتي بدورها تسبح وسط هذا الظلام الشامل، لم يألفه الإنسان في جو الأرض لأن السواد حالك في الفضاء رغم وجود الشمس، والسر في عدم رؤية الشمس في الفضاء انعدام التبعثر أو التشتت الضوئي، ونظرا لتخلخل الجو وعدم احتوائه على الذرات الكافية لإحداث الانعكاس والتشتت لأشعة الشمس بالدرجة التي تجعلنا ندرك النور غير المباشر الذي نشعر به فقط في جو الأرض. الضابط اللغوي لهذه الآية: عبر القرآن الكريم بقوله (لو) عن فرض لن يتبعه إنجاز بالنسبة لمن تعنيهم هذه الآية ... ولكن التعبير أيضاً يشير إلى إمكانية فتح الطريق (لأن امتناع الشرط وعدم وقوعه امتناع جوابه تبعا له، إذ كان فعل الشرط هو السبب الوحيد في إيجاد جوابه وتحقيقه ... فإن كان للجواب سبب آخر فلا يحتم الامتناع بامتناع هذا الشرط لجواز إن يؤدي السبب الآخر إلى إيجاد الجواب وتحقيق معناه ... فقد يمتنع الجواب حيناً، ولا يمتنع حيناً أخر، على حسب ما تقتضي به القرائن والمناسبات .. لذا فمن خطأ التعبير الشائع على السنة المعٌربين وهو: (أنها حرف امتناع لامتناع) والصواب ما ردده سيبويه من أنها: (حرف يدل على ما كان سيقع لوقوع غيره) أي: لما كان سيقع في الماضي، لوقوع غيره في الماضي أيضاً. وهذه العبارة صحيحة ودقيقة، ولا تحتاج إلى تأويل أو تقدير، أو زيادة. أما في هذه الآية فكفار مكة لن يرتادوا الفضاء نظراً لعدم التقدم العلمي ولو توافر شرط ارتياد الفضاء بالقدر المسموح لهم وما يترتب على هذا الارتياد من مواجهة ظلام الفضاء الكوني لتحقق جواب الشرط (لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) تحقيقاً أكيداً كما حدث فعلاً لرائد الفضاء الأول (يوري غاغارين)، فهذا مسموح به لغوياً، وفي قوله (لقالوا) تأكيد لهذا لو زال المانع. وكما تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن في تفسيرها البياني لقوله تعالى: (كَلآ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) إن هذا الأسلوب أقوى في تأكيد الجواب وعدم احتماله لأي شك متى زال المانع. لذا يقول منصور حسب النبي: إن التعبير القرآني بقوله سبحانه (لو فتحنا عليهم بابا من السماء) يشير إلى إمكانية فتح طريق آمن في السماء، لأن الفضاء عدو لدود للإنسان ولولا المعارف العلمية الحديثة في علوم الفضاء والاحتياطات التي عرفها الإنسان ليتخذها لنجاح الرحلة، وفوق كل هذا لولا العون الإلهي لتوفير عوامل هذا النجاح لما تم ارتياد الفضاء المملوء بالإشعاعات القاتلة والمخاطر الفتاكة. أما السماء المقصودة في هذه الآية فهي واحدة السماوات، كما ذكر الدكتور فاضل صالح السامرائي؛ لأن السماء تستعمل على معنيين، فهي إما أن تكون واحدة السماوات كما ذكرنا في هذه الآية، وإما أن تكون لكل ما علاك فتشمل السماوات وغيرها، كالسحاب والمطر والجو وغيرها. وسياق الآية هو الذي يدل على المعنى الذي ذكرناه؛ وذلك بقوله: {باباً من السماء} فكما هو معلوم أن السماوات لها أبواب كما جاء في حديث الإسراء والمعراج، وإن اختلف المفسرون في هذا الباب المذكور، فمنهم من قال إنها غير الأبواب المعهودة في حديث الإسراء والمعراج، وأيضاً يدل على ذلك العلم الحديث، فخروج رواد الفضاء لم يكن خارج مجموعتنا الشمسية، لأن هذه الظاهرة تحدث بمجرد الارتفاع 200 كيلو متر فوق سطح الأرض. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني