الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم الانتفاع من المال المحرم بعينه، والمال المكتسب بالحرام

السؤال

بارك الله فيكم وفي موقعكم الكريم، وأسأل الله لكم الإعانة، أعتذر عن الإطالة قليلا، والتفريعات؛ فإن الله وحده هو العليم بحالتي.
أنا شاب عمري 21 عاما، أنا أكبر إخوتي، ووالدي متوفى؛ بدأت منذ سنتين تقريبا، أتنبه لأشياء لم أكن أنتبه إليها من قبل، وأجد أن معظم معيشتي من حرام.
فهذا جدي -من جهة الأم- كان عاملا ببنك ربوي، وهو الآن يتقاضى راتبا تقاعديا منه، وأنا طول عمري أحب بيتهم، وآكل عندهم. ولكني الآن لم أعد أشرب عندهم حتى شربة ماء.
وقد كلمته من قبل من غير تصريح عن سبب عمله في بنك، فقال لي: هناك أناس يقولون حرام، وأناس يقولون حلال -الفتاوى التي ظهرت في مصر-وأنا لا أجد عملا.
ومن كلامي معه عرفت أنه يعلم حرمة الربا، ولكن أظنه في الغالب لا يدري أن ماله حرام، وأن عمله حرام.
وهؤلاء أعمامي وأولاد عمي يعملون في الحلاقة، ولا يبالون بحلق القزع، أو اللحى، وأنا أيضا لا آكل عندهم.
وجدي وخالي لهما تعاملات مع البورصة، ولا أظنهما يعلمان أحكامها وضوابطها.
بدأت في طلب العلم ولله الحمد، وأنا أحب الله، وأخاف أن أعصيه بأية معصية. وقد أعانني الله على كثير منها ولله الحمد. وأحاول التورع عن الشبهات.
ولكن الأمر كان مختلفا جدا، وكادت الأرض تضيق علي. فمثلا أمي تتعامل مع جدي، وهو أحيانا يعطيها مالا، ويعطي لإخوتي مالا، فهو لديه محل يبيع فيه أكل الدجاج والبهائم وأمي تشتري من عنده، وقد أصبحت لا آكل البيض أبدا، وكذلك أي شيء يأتون به من هناك لا أقربه أبدا، رغم أني قرأت في موقعكم الكريم، أن جدي بهذا الوصف ماله مختلط، وتكره معاملته.
وأيضا أمي تقرض عمي مالا؛ لأن أولاده كانوا يحتاجونه. وبعد فترة سدد عمي المال، وهو يعمل في الحلاقة. فكيف سأتورع عن ذلك المال وأمي تعطيني من ذلك المال؟
ومثلا معاملة من ماله مختلط، فغالب الناس إن لم أقل 98% لا يتورعون عن الشبهات، وكثير منهم لا يبالي بالحرام. فكيف إذا سأعيش، ويكون لدي مال؟ ومن ضروريات الحياة البيع والشراء. فكيف سأتورع هنا عن الشبهة، بل وكيف سأعمل، وأجد عملا حلالا، خاصة في ذلك الزمان سواء كنت طبيبا أو مهندسا، أو صاحب محل للبيع والشراء. كيف سأتورع عن معاملة الناس في أموالهم؟
وأيضا أنا أكبر إخوتي، ولدي أخوات. كيف سأزوجهن، ويكون لدي مال، بل وكيف سأجد لهن أزواجا صالحين متورعين؟
في الحقيقة أنا في حياتي لا أخير بين الحلال المحض والحرام المحض، بل بين الشبهة والحرام. وأنا لم أعد أتحمل حياتي، والتفكير في هذا الأمر في حد ذاته يقلب أيامي رأسا على عقب، فلا أستطيع المذاكرة، ولا طلب العلم، وتسود الحياة في وجهي، ولولا مخافة الإثم لتمنيت الموت في كل لحظة.
فهل الورع مثل ما ذكرت، أم الأمر ليس كذلك، فإن الحياة سوداء مظلمة أمامي؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله تعالى أن يشرح صدرك، ويزيدك حرصاً على طاعته، واجتناب معاصيه، وأن يعلمك ما ينفعك.

واعلم أنّ الورع محمود، ما لم يفضِ بصاحبه إلى الحرج الذي رفعه الله عنا في هذه الشريعة السمحة.

ولذلك ننبهك إلى بعض الأمور حتى لا توقع نفسك في الحرج، أو تضيق عليها في موضع جعل الله لك فيه سعة:
- معاملة أصحاب المال المختلط؛ جائزة، وراجع الفتوى: 73957
- من عمل عملاً يعتقد حلّه؛ جاز التعامل معه في المال المكتسب من هذا العمل، ولو كان المتعامل يرى حرمة هذا العمل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الأصل الثاني: أن المسلم إذا عامل معاملة يعتقد هو جوازها، وقبض المال، جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال. وإن لم يعتقد جواز تلك المعاملة. انتهى من مجموع الفتاوى.
- ينبغي التفريق بين المال الحرام المأخوذ بالسرقة والغصب ونحو ذلك، وبين الحرام المأخوذ بمعاملات محرمة كالمعاملات الربوية، أو العقود المحرمة، فالأول لا تجوز المعاملة فيه لمن يعلم حاله، والثاني فيه تفصيل، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز معاملة صاحبه، والانتفاع به في البيع والشراء والهبة وغيرها.
فقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- هذا السؤال: الحمد لله، فقد رزقني الهداية، ومقبل على الزواج -إن شاء الله- في الوقت الحالي، والمشكلة أن والدي -هداه الله- يتعامل بالربا، وسوف يساعدني مادياً في أمر هذا الزواج. وإنني الآن في حيرة، فأنا لا أمتلك قيمة المهر، وفي ذاته، فإنني أخشى قبول مساعدة والدي من ماله الحرام، وهذا معناه أني سوف أظل دون شريكة حياة لسنوات قادمة. فماذا أفعل؟
فأجاب رحمه الله: أحب أن أعطي الأخ السائل والقراء قاعدة مفيدة، وهي: ما حرم لكسبه؛ فهو حرام على الكاسب فقط. وأما ما حرم لعينه؛ فهو حرام على الكاسب وغيره.
مثال على ذلك: لو أن أحداً أخذ مال شخص بعينه، وأراد أن يعطيه آخر لبيع أو هبة. قلنا: هذا حرام؛ لأن هذا المال محرم بعينه.
أما الكسب الذي يكون محرما كالكسب عن طريق الربا، أو عن طريق الغش -أو ما أشبه ذلك- فهذا حرام على الكاسب، وليس حراما على من أخذه بحق. ودليل هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يقبل من اليهود، ويجيب دعوتهم، ويأكل من طعامهم، ويشتري منهم، ومعلوم أن اليهود يتعاملون بالربا؛ كما ذكر الله عنهم في القرآن.
وبناء على هذه القاعدة، أقول لهذا السائل: خذ جميع ما تحتاجه للزواج من مال أبيك؛ فهو حلال لك وليس حراما. من فتاوى إسلامية.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني