الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دلالة الإنجيل على أن المسيح عليه السلام لم يصلب

السؤال

سلام ونعمة، أنا شاب مسيحي وعندي 17 عاماً، وأريد أن أكون صديقاً لكم, وأسأل في الديانة الإسلامية وأنا أعرف أنكم لا تؤمنون بصلب الرب يسوع المسيح لأن القرآن يقول بأنه شبه للناس بصلبه إذا لو هذا حدث بالفعل فهل هذا خداع من الله، وما ذنب اليهود الذين رأوا المشبه بالمسيح مصلوباً أمام أعينهم، وسؤالي الآخر هو: كيف يسمح الله بتحريف كلامه مع أن يسوع المسيح قال: تزولان السماء والأرض ولا يزول حرف من كلامي؟ وشكراً جزيلاً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فأهلا ومرحبا بك، ونحن نرحب بأسئلتك عن الإسلام، ونسأل الله أن يشرح صدرك، وأن يوفقك إلى ما يحبه ويرضاه، واعلم أن المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام ليس بإله، بل هو بشر ورسول كريم، بعثه الله لتبليغ دينه، وإعلاء شريعته، شأنه في هذا شأن غيره من الرسل، فقد قال تعالى: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ {المائدة:75}، وقال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ {آل عمران:59-60}، وهذا يوافق إنجيل لوقا الإصحاح 24: 19 حيث جاء فيه: يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول. فلوقا يصف المسيح بأنه كان إنسانا، وفي إنجيل مرقس الإصحاح 12: 29 من أقوال المسيح عليه السلام: إن أول كل الوصايا... الرب إلهنا واحد. أفلا تدل كلمة: إلهنا على أن المسيح عليه السلام ينتمي للبشر؟

ويقول الإنجيل عن عيسى أنه كان يتوجع قائلاً: للطيور أوكار، وللثعالب أوكار، وليس لابن الإنسان مكان يضع فيه رأسه. هل يتحسر خالق السماوات والأرض وملك العالم والكون أنه لا يملك ما يملكه ثعلب أو غراب؟!

وأما بالنسبة لاعتقادكم أن المسيح قد صلب، فهذا اعتقاد باطل، قد دل على بطلانه كتابكم المقدس، ففي إنجيل لوقا 4: 29-30 أن الله عصم المسيح عليه السلام وحفظه من كيد اليهود ومكرهم فلم يستطيعوا أن يصلبوه قال يوحنا : 8 : 59 (فرفعوا حجارة ليرجموه. أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازا في وسطهم ومضى هكذا). وقال يوحنا 10: 93: (فطلبوا أيضاً أن يمسكوه فخرج من أيديهم)، وفي يوحنا 36: 19 (وقد حدث هذا ليتم ما جاء في الكتاب: لن يكسر منه عظم)!.

هذا العبارة في الإنجيل يُقصد بها المسيح، وهي كافية لإثبات عدم صلبه، فالمصلوب لابد أن تخترق المسامير الحديدية الغليظة يديه وقدميه على الأقل بالطرق العنيف الشديد المتواصل، وبعد ذلك على ثقوب جسده التي أحدثتها هذه المسامير الغليظة المطروقة أن تتحمل كل وزنه وثقله لبضع ساعات على الأقل، فكيف بعد ذلك لا يكسر منه عظم؟!

والحق الذي لا مرية فيه أن الله رفع إليه المسيح، كما دل عليه القرآن، قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا* بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {النساء:157-158}، وراجع تفسير هذه الآية في الفتوى رقم: 6238.

وقد دل على ذلك أيضاً الإنجيل الذي بين أيديكم، ففي سفر أعمال الرسل 1: 11: (إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء)، وفي متى 4: 6 ولوقا 4: 10-11: (مكتوب أنه يوصي ملائكته بك فعلى أياديهم يحملونك).

وأما ما هو ذنب اليهود، فذنبهم أنهم كفروا بالمسيح وأرادوا صلبه وقتله، ولو ظفروا لفعلوا به ذلك، ولكن الله نجاه من أيديهم، فإن كان الله ألقى شبهه على غيره -إنساناً أو شيطاناً- خداعاً لليهود -كما هو أحد الوجوه الواردة في تفسير الآية- فإن خداع من يستحق الخداع على وجه الجزاء له مما يمدح، وهذا منه سبحانه في أعلى مراتب الحسن.

أما تحريف الأناجيل فأمر ثابت، وليس أدل على ذلك من تناقض الأناجيل الموجودة الآن، ولا يعرف من كتبها ولا ما هي اللغة الأصلية التي كتبت بها، حتى قال فهيم فؤاد في مدخل للعهد الجديد عندما سئل عن مؤلف إنجيل يوحنا: (لا يعلم إلا الله وحده من الذي كتب هذا الإنجيل)، والأناجيل المتداولة هي: (متى، لوقا، مرقس، يوحنا) ونحن كمسلمين لا نؤمن بغير إنجيل عيسى عليه السلام فأين هو هذا الإنجيل؟

وهؤلاء الكتبة للأناجيل بعضهم تتلمذ على يد المسيح (متى، يوحنا، بطرس، يعقوب، يهوذا) وبعضهم تنصر بعد المسيح ولم يلقه (بولس ومرقس تلميذ بطرس)، وبعضهم تنصر على يد من لم يلق المسيح (لوقا تلميذ بولس) وقد كتبت أصول هذه الأناجيل باللغة اليونانية فيما عدا (متى) الذي كتب بالعبرانية، لكن أياً من اللغتين لم تكن لغة للمسيح، الذي كان يتكلم السريانية كما دلت على ذلك الأناجيل، فمن الذي ترجم هذه الأناجيل؟ وأين النسخ الأصلية؟ فهذه أسئلة لا تجدون لها جوابا وهي تفقد أي ثقة في هذا الأناجيل، ولمزيد بيان عن إثبات التحريف الواقع في الأناجيل من كلام علماء النصارى أنفسهم، وبيان الدور الذي لعبه بولس في ذلك التحريف انظر الفتاوى رقم: 29326، 43148.

ونقول: إن هذا التحريف وهذا التبديل للتوراة والإنجيل رغم أنه وقع من اليهود والنصارى إلا أن الله لا يحبه ولا يأمر به، وهم مجزيِّون به يوم القيامة، وذلك كما أن الكفر والإلحاد أمر واقع، ولكن الله لم يأمر بالكفر ولا يرضى لعباده الكفر، ولقد حفظ الله كتابه القرآن الكريم من التبديل والتحريف، فتولى هو سبحانه وتعالى حفظه، ولم يكل أمر حفظه إلى أحد من البشر، قال تعالى عند القرآن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر:9}.

فمع تطاول الزمان لم يتغير حرف واحد من القرآن، فلو أحضرت نسخاً من المصحف من أي مكان في العالم وقارنتها لوجدتها متطابقة تماماً، وهذه معجزة، مع أن الأمة الإسلامية تعرضت لغزو التتار والصليبيين، ثم تعرضت للاستعمار في العصر الحديث، ومع ذلك لم يستطع أحد أن يغير فيه ولو آية، بينما الأناجيل التي في أيدي الناس مختلفة!!، ولمعرفة السبب في ذلك راجع الفتويين: 50460، 8187.

وأما استدلالك بما نسب إلى المسيح عليه السلام أنه قال: (إن السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول أبداً) على عدم تحريف الأناجيل، فعلى فرض أن هذا القول المنسوب إلى عيسى صلى الله عليه وسلم تصح نسبته إليه -وليس هناك ما يؤكد ذلك- فإنه لا يدل على عدم تحريف الأناجيل، ولاسيما عندما يوضع في سياقه الذي ورد فيه، فقد جاء في إنجيل متى 29-35: 24: وحالاً بعد الضيقة في تلك الأيام (قرب نزول عيسى عليه السلام) تظلم الشمس، ويحجب القمر ضوءه، وتتهاوى النجوم من السماء، وتتزعزع قوات السماوات، وعندئذ تظهر آية ابن الإنسان في السماء، فتنتحب قبائل الأرض كلها، ويرون ابن الإنسان آتيا على سحب السماء بقدرة ومجد عظيم، ويرسل ملائكته بصوت بوق عظيم ليجمعوا مختاريه من الجهات الأربع، من أقاصي السماوات إلى أقاصيها، وتعلموا هذا المثل من شجرة التين: عندما تلين أغصانها، وتطلع ورقاً، تعرفون أن الصيف قريب، هكذا أيضاً حين ترون هذه الأمور جميعها تحدث، فاعلموا أنه قريب بل على الأبواب. الحق أقول لكم: لا يزول هذا الجيل أبداً، حتى تحدث هذه الأمور كلها، إن السماء والأرض تزولان: ولكن كلامي لا يزول أبداً. اهـ فواضح من خلال هذا السياق أن عيسى عليه السلام أراد باستحالة زوال كلامه ما يتعلق منه بخبر نزوله، فهو لا يدل على عدم تحريف الأناجيل.

ولظهور دلالة السياق على ذلك، فقد نص عليه اثنان من كبار شراح الإنجيل، يقول القسيس بيرس مراده شارحاً قول المسيح الآنف: تقع الأمور التي أخبرت عنها يقيناً.

وقال دين استاين هوب: إن السماء والأرض وإن كانتا غير قابلتين للتبدل بالنسبة إلى الأشياء الأخرى لكنهما ليستا بمحكمتين مثل إحكام إخباري بالأمور التي أخبرت عنها، فتلك كلها تزول، وإخباري بالأمور التي أخبرت عنها لا يزول، بل القول الذي قلته الآن لا يتجاوز شيء منه عن مطلبه. وراجع للأهمية الفتوى رقم: 10326 والفتوى رقم: 30506، والفتوى رقم: 47095.

ونسأل الله أن يهدينا وإياك إلى الحق ويجنبنا وإياك الباطل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني