الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أربـابُ جِد في العمل

أربـابُ جِد في العمل

أربـابُ جِد في العمل

لا نِزاعَ في أهميَّةِ التنظيرِ، والتأصيلِ العِلميِّ، وتحريرِ الأقوالِ، وتحقيقِ المسائلِ، وتوثيقِ الدلائلِ.
لكنَّ هذا التنظيرَ اعتَراهُ الضعفُ، وهَشاشةُ البحثِ، وهُزالُ التحريرِ.. وليست هذه السطورُ في مُعالجةِ هذا الضعفِ والتهافُتِ في التنظيرِ، وإنَّما هي تذكيرٌ بالجانبِ العَمليِّ، ومُعالجةِ التقصيرِ في الأفعالِ، ومُدافعةِ السلبيَّةِ والتكاسُلِ عنِ البِدارِ إلى الباقياتِ الصالحاتِ؛ إذِ استحوذَ على الساحةِ القيلُ والقالُ، وتشقيقُ الكلامِ، والإسهابُ في جَلَساتِ «العصفِ الذهنيِّ»، والإطنابُ فيما يُسمَّى «الحِراكَ الثقافيَّ»، وتفاقمُ النقاشاتِ والمخاطباتِ، فاستُنزِفَتِ الأوقاتُ، وأُهدِرَتِ الطاقاتُ في الأقوالِ على حسابِ الأفعالِ، فتكاثَرَ وتضاعَفَ التنظيرُ، وتناقَصَ وتقلَّصَ التطبيقُ.

لقد كان سلَفُنا الصالحُ «عبيدَ تَسليمٍ في العقائدِ، أربابَ جِدٍّ في العَملِ»؛ فقد حَرَصوا على ما ينفَعُ، واشتَغَلوا فيما تحته عَملٌ، وجدُّوا في طاعةِ اللهِ والاتِّباعِ، وجانَبوا شُكوكَ المتكلِّمينَ وشَطَحاتِ المتصوِّفينَ، عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها قالت: [كان أحبُّ العَملِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي يدومُ عليه صاحبُه][البخاري].

«ودخَلَ الحسَنُ البَصريُّ رحمَه اللهُ المسجِدَ، فقعَدَ إلى جَنبِ حَلْقةٍ يَتكلَّمونَ، فأنصَتَ لحديثِهم، ثم قال: هؤلاء قومٌ ملُّوا العِبادةَ، ووجَدوا الكلامَ أهونَ عليهم، وقلَّ وَرَعُهم وتَكلَّموا»[الحِليةُ لأبي نُعيمٍ 2/ 157].

وقال الأوزاعيُّ رحمَه اللهُ: إنَّ المؤمِنَ يقولُ قليلًا، ويَعمَلُ كثيرًا، وإنَّ المنافِقَ يقولُ كثيرًا، ويَعمَلُ قليلًا»[الحِليةُ:6/ 142].

«وكان مالكُ بنُ أنَسٍ يقولُ: الكلامُ في الدِّينِ أكرَهُه، ولم يزَلْ أهلُ بلدِنا يَكرَهونَه ويَنهَوْنَ عنه، ولا أحبُّ الكلامَ إلَّا فيما تحتَه عَملٌ؛ لأنِّي رأيْتُ أهلَ بلدِنا [المدينةِ النبويَّةِ] يَنهَوْنَ عنِ الكلامِ إلَّا فيما تحتَه عَملٌ»[جامع بيان العلم].

«وقال معروفٌ: إذا أرادَ اللهُ بعبدِه شرًّا أغلَقَ عنه بابَ العَملِ، وفتَحَ عليه بابَ الجدَلِ»[السِّيَرُ للذهبيِّ:9/ 340].

ثم إنَّ الشخصَ بطبيعتِه وجِبلَّتِه لا بُدَّ أنْ يَعمَلَ ويَسْعى، كما في قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [أصدَقُ الأسماءِ حارثٌ، وهمَّامٌ][أخرجه أحمد].

فكلُّ إنسانٍ حارثٌ، أيْ صاحبُ عَملٍ وكَسبٍ وسَعيٍ، فإنْ أعرَضَ عنِ العَملِ المشروعِ، اشتَغَلَ بالعَملِ الممنوعِ، وإنْ لم يَفعَلِ المطلوبَ، ارتكَبَ العَملَ المحظورَ.

قال ابنُ القيِّمِ: «مَن رغِبَ عنِ العَملِ لوجهِ اللهِ وَحدَه ابْتَلاه اللهُ بالعَملِ لوُجوهِ الخَلقِ، فرغِبَ عنِ العَملِ لِـمَن ضرُّه ونفعُه وموتُه وحياتُه وسعادتُه بيَدِه، فابتُليَ بالعَملِ لِمَن لا يملِكُ شيئًا من ذلك، وكذلك مَن رغِبَ عنِ التعَبِ للهِ ابتُليَ بالتعَبِ في خِدمةِ الخَلقِ ولا بُدَّ..»[مدارجُ السالكينَ:1/ 165].

وقد ذم السلف أصحاب السلوب في الصفات وأرباب التروك في العمل من المتكلمة وغيرهم، لأنهم لم يأتوا بأعمالٍ صالحةٍ، ولهذا كان غالبُ مَن سلَكَ طرائقَهم بطَّالًا مُتعطِّلًا».
فمَن ترَكَ الصالحاتِ فهو بطَّالٌ على طريقةِ أهلِ التعبُّدِ الفاسِدِ، وإلَّا فالوَرَعُ فِعلٌ وعَملٌ قبلَ أنْ يكونَ تَركًا، وزكاةُ النفوسِ تجمَعُ بينَ طهارتِها منَ الذنوبِ وتَنميتِها بالأعمالِ الصالحاتِ، فلا زكاةَ للنفوسِ إلَّا بحُصولِ ما ينفَعُها منَ الأعمالِ النافعةِ، ودَفعِ ما يضُرُّها منَ السيِّئاتِ الواقعةِ.[يُنظرُ: مجموع الفتاوى:10/ 96].

وقد غلَبَ على الخِطابِ السلَفيِّ في بعضِ الأحايينِ: الاشتغالُ بالتُّروكِ، وتَتبُّعُ المخالَفاتِ، وتَعدادُها على سَبيلِ التحذيرِ، والانهماكُ في سَردِ أفرادِ البِدَعِ والـمُحدَثاتِ، والنفوسُ إنَّما «خُلقَتْ لتعمَلَ، لا لتترُكَ، فالتركُ مَقصودٌ لغَيرِه، فإنْ لم يشتَغِلْ بعملٍ صالحٍ، وإلَّا لم يترُكِ العَملَ السيِّئَ، أوِ الناقصَ».
والحقُّ أنَّ الاشتغالَ بالسُّنَنِ الفِعليَّةِ والأعمالِ الشرعيَّةِ وإظهارَها آكَدُ وأجَلُّ، فلا يُنْهى عن مُنكَرٍ إلَّا ويُؤمَرُ بمعروفٍ يُغْني عنه".[الاقتضاء:2/ 617].

وإظهارُ السُّنَنِ يوهِنُ البِدَعَ، ويُؤذِنُ بانطماسِها، كما أنَّ ظهورَ البِدَعِ يَصحَبُه ارتفاعُ السُّنَنِ واندراسُها، كما في الحديثِ: [ما أحدَثَ قومٌ بِدعةً إلَّا نزَعَ اللهُ عنهم منَ السُّنَّةِ مِثلَها][رواه أحمد].

ثم إنَّ البِدَعَ انفلاتٌ عنِ السُّنَنِ، وتنَصُّلٌ عن الاتِّباعِ، ولُزومَ السُّنَّةِ: أعمالٌ مُتحقِّقةٌ، وأفعالٌ واقعةٌ.
وممَّا يؤكِّدُ ذلك أنَّ جنسَ فِعلِ المأموراتِ آكَدُ من جنسِ تَركِ المَنهيَّاتِ، فالمأموراتُ مَقصودةٌ لذاتِها، وتركُ المحظوراتِ مقصودٌ لغيرِه، كما حرَّرَه ابنُ تيميةَ، وابنُ القيِّمِ، وغيرُهما.

والتعلُّقُ باللهِ والدارِ الآخِرةِ يوجِبُ العَملَ والبِدارَ، والِجدَّ والاجتهادَ، كما في حديثِ أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: [مَن خافَ أدْلَجَ، ومَن أدْلَجَ بلَغَ المنزِلَ، ألَا إنَّ سِلعةَ اللهِ غاليةٌ، ألَا إنَّ سِلعةَ اللهِ الجَنَّةُ](الترمذي وقال حديث حسن).

فالغَفلةُ عنِ البَعثِ والنُّشورِ، والجزاءِ والحسابِ؛ توقِعُ في التثاقُلِ إلى الدُّنْيا، والتكاسُلِ عن مَعالي الأُمورِ، والتقاعُسِ عنِ الجِدِّ في تحصيلِ القُرُباتِ والصالحاتِ، وكلَّما زادَ اليقينُ بالآخِرةِ لدى الشخصِ تضاعَفَتِ الطاعاتُ، وتسارَعَتِ الأعمالُ الباقياتُ، كما كان عليه سلَفُنا الأوائلُ.

وصلاحُ القلبِ يَستلزِمُ صلاحَ الجَوارحِ، فإذا تحرَّكَ القلبُ بمحبَّةِ اللهِ تَعالى وخوفِه ورَجائِه وإجلالِه؛ تحرَّكَتِ الجوارحُ بالأعمالِ الصالحاتِ، والحسناتِ الماحيةِ.
وإذا حلَّتِ الهدايةُ قَلبًا ... نَشِطَتْ للعِبادةِ الأعْضاءُ

«فالقلبُ إذا كان فيه مَعرفةٌ وإرادةٌ، سَرى ذلك إلى البَدنِ بالضرورةِ، لا يمكِنُ أنْ يختلِفَ البَدنُ عمَّا يُريدُه القلبُ، ولهذا قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: «[لَا وإنَّ في الجَسدِ مُضغةً إذا صلَحَتْ صلَحَ لها سائرُ الجسَدِ، وإذا فسَدَتْ فسَدَ لها سائرُ الجسَدِ، ألَا وهي القلبُ](البخاري ومسلم).
فإذا كان القلبُ صالحًا بما فيه منَ الإيمانِ عِلمًا وعَملًا قلبيًّا، لزِمَ ضرورةً صلاحُ الجسَدِ بالقولِ الظاهرِ، والعَملِ بالإيمانِ المطلَقِ. فإذا صلَحَ القلبُ صحَّتِ الأعمالُ، ونشِطَتِ الجوارحُ في إقامةِ الصالحاتِ، وذاقَ العبدُ حَلاوةَ الطاعاتِ، ووجَدَ الأُنسَ وقُرَّةَ العَينِ في أدائِها.

فاللَّهُمَّ أعِنَّا على ذِكرِكَ، وشُكرِكَ، وحُسنِ عِبادتِكَ.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة